هناك قضايا من الخطورة أن تمر مرور الكرام على القارىء والصحافة والمسئولين. وهي تحمل تأثيرات بالغة الأهمية، ومازالت مدار جدل تتوقف فيها الصحافة السعودية عند حدود تصريحات بعض المختصين، وتنشر الصحافة هذه التصريحات دون متابعة كافية لكشف الحقائق للقارىء وتتركه نهباً للتوجس. من هذه القضايا ما أثير خلال الأيام الماضية حول نتائج البحث الذي أجراه الدكتور محمد الطفيل «استشاري السموم وتحليل الأدوية والأعشاب في المستشفى التخصصي بالرياض» والذي أكد فيه وجود مادة مسرطنة في نعناع الحبق في المدينةالمنورة، والذي حمل ردود فعل ساخنة في أوساط الأطباء المختصين بالأعشاب والسرطان، حيث أعلن الدكتور فهد الخضيري «الباحث في مستشفى الملك فيصل التخصصي ورئيس وحدة السرطانات» والدكتور جابر القحطاني «استشاري طب الأعشاب في جامعة الملك سعود» تحديهما للطفيل في إثبات صحة ما ذهب إليه، نافين وجود أي مادة مسرطنة في حبق المدينة. يأتي ذلك في الوقت الذي تمسك الطفيل بما توصل إليه من نتائج، وأضاف أنه يملك دراسات وبحوثا تثبت أن «نعناع الحبق» يحتوي على مادة «البيلوجون المسرطنة» كتحليل كيمائي. هذه القضية تستحق المتابعة، والبحث الدقيق، وتتطلب مهارات صحافة علمية قادرة على التواصل العلمي مع المختصين، والبحث في قواعد المعلومات الطبية حول تلك التأثيرات ومعاودة الاتصال بالباحثين في الداخل والخارج حتى تضع القضية في إطارها الشامل والدقيق والبعيد عن التخمين ولا تترك لجدلية عدد محدود من الباحثين المختصين. سأقدم أكثر من مثال هنا، وإلا فالقائمة طويلة، ففي صحيفة «الرياض» لفت انتباهي أيضا مقال وخبر، كلاهما حول قضايا وطنية غاية في الأهمية. ففي صفحة الرأي، وتحت عنوان "لماذا انحصر انتشار سرطان الدم في مناطق القصيم وتبوك والجوف؟" كتب المهندس تركي النقيدان ما يتضمن إشارة إلى تلوث مياه تلك المناطق بجزيئات الراديوم المشعة تتجاوز المستوى الآمن للشرب، وهي ربما المسئولة عن ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان في تلك المناطق. وقضية ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان أشار لها الدكتور الخضيري في تصريح سابق وأنها تصل إلى زيادة سنوية تبلغ 11% في المملكة، وهذه ليست مجرد قضية صغيرة.. بل تتطلب تحقيقات موسعة ونشاطاً صحفياً كبيراً يتصل بكل الأطراف المعنية بهذه القضية ويضع مسألة المياه الملوثة بالإشعاعات ومستوى التلوث في عين القارىء والمسئول، والمعالجة التي لا تحتمل التأجيل أو الانتظار. وإلا بقيت تلك القضية مثار قلق ومصدراً للإشاعات وضربا من التوقعات.. أكثر منها محاولة لوضع حقائق يجب أن تصبح في عين الاهتمام الكبير. أما الخبر الذي جاء في العدد نفسه فهو الجدل الدائر حول مخاطر أبراج الجوال داخل المناطق السكنية، وهو مجرد خبر عن ندوة شاركت بها لجنة حقوق الإنسان وبعض شركات الاتصالات العاملة في المملكة، بينما هي قضية مازالت تُثار لدى العديد من الجهات والمسئولين والمواطنين دون الوصول إلى نتائج مؤكدة تنفي شبهة التأثير التي تبدو هي الرائجة في الأوساط المحلية. هناك قضايا وطنية كثيرة تمر مرور الكرام في الصحافة اليومية، يجمعها خيط مهم، أولاً ارتباطها بقضايا وطنية ملحة مازال التعامل معها دون المستوى المأمول، وثانياً علاقتها بقضايا علمية تقف منها الصحافة موقف المعالجة الخبرية العابرة، أو تصريحات بعض المختصين التي ربما لا تقدم سوى وجهة نظر الباحث أو المختص أو المسئول، ولا تصل إلى مستوى الكشف والمتابعة والرصد والاستقصاء. ما تحتاجه هذه القضايا الوطنية ذات الصلة بالعلم وصحة الإنسان بالدرجة الأولى أن تتحول إلى قضايا رأي عام، ولن يكون هذا إلا عبر صحافة لا تكتفي بمقالات أو تصريحات عابرة على أهميتها، بل يتطلب الأمر أن تجعل هذه القضايا في صلب اهتمامها بحثاً وتحقيقاً وكشفاً. هذه القضايا برمتها تحتاج ليس فقط صحفيين محترفين، ولكن صحفيين علميين محترفين. هذه قضية يتداخل فيها الأخلاقي بالعلمي بالإداري. ومن الصعب أن يتقصي أبعادها سوى صحفي بعقلية باحث يملك ثقافة علمية جيدة وقدرة على التواصل مع الباحثين في مواقع مختلفة، وقدرة على رصد حالات في مناطق مختلفة، وتقديم مؤشرات وأرقام ومعلومات دقيقة. حينها فقط يمكن لنا أن نقول إن لدينا صحافة كاشفة وإعلاماً علمياً تنموياً يطال حتى التفاصيل الصغيرة في القضايا الكبيرة. وهذا ينطبق على قضايا علمية كثيرة، وإنما جاءت الإشارة إلى هذه القضايا على سبيل المثال العابر والحاضر لا الاستقصاء الموسع وإلا فهناك الكثير. مهمة الصحافة العلمية يجب أن تتحول من الانهماك في تسويد صفحات ثقافة طيبة أو غذائية أو زراعية ذات طابع أرشيفي... إلى مستوى تطوير كفاءات وقدرات علمية صحفية قادرة على تبني مشروعات صحفية تعالج قضايا علمية ذات طابع تنموي، ولها تداعيات خطيرة، وأن تكون بمستوى صناعة تحقيقات وكتابة تقرير علمية موثقة تعطي في الأخير قيمة لمهمة هي اقرب للبحث العلمي الدقيق. فالصحفي العلمي يجب أن يحمل أيضا عقلية باحث مدقق، ويخضع أدواته ومعلوماته واتصالاته لخدمة مشروعه الصحفي. جُل ما ينشر اليوم في صفحات العلم، لا يعدو أن يكون معلومات علمية حول الصحة العامة والأمراض الشائعة أو يدور حول فوائد بعض الأغذية أو يطال تقنية المعلومات.. وهي مواد تميل صحفنا المحلية عند تحريرها إلى الثقافة العلمية الأرشيفية وليس الصحافة العلمية المهنية التي تتطلب سياسات تحريرية واضحة تجاه معالجة قضايا العلم من منظور أوسع وأشمل، يطال التحقيق والبحث والاستقصاء والمواكبة، ويدخل في صميم قضايا التنمية الوطنية. وهذا ليس تقليلا من أهمية ما ينشر، لكن في نظري انه لا يجب أن يكون مهمة صحافة يومية تتوقف عنده. الصحافة العلمية مشروع أوسع وأعمق، يواكب مستجدات العلم، ويعالج قضايا مثيرة للجدل، ويحاور علماء وباحثين بعقلية الباحث، ويغطي ندوات علمية برؤية وعين قارئة في المشهد العلمي ولا يكتفي بنقل بيان صحفي. معظم من يتولى تحرير الصفحات العلمية في الصحف السعودية هم من الأكاديميين المتخصصين، وهم يحملون هاجس نشر الثقافة العلمية، ويسهمون في هذا المجال بما يسعفهم به وقتهم. إلا أن ما تحتاج إليه صحفنا اليوم هو تأسيس مهني لصحافة علمية متخصصة يعمل فيها محررون علميون مؤهلون ومتفرغون، يجمعون بين التأهيل العلمي والخبرات الصحفية، ويستطيعون أن يتلقطوا قضايا وطنية ذات صلة بالعلم ليحيلوها إلى قضايا صحفية بامتياز. لو وجد صحفي علمي متخصص ومحترف لاستطاع عن يجعل من مثل تلك القضايا قصة صحفية بالغة الأهمية، تأخذ بعين الاعتبار الدراسات التي أجريت، وتحاور العلماء والباحثين، وتستعين بالأبحاث العلمية في هذا المجال في الداخل أو الخارج وتكشف الحقائق للناس، وتضع المسئول في عين المشهد، وأضمن أنها ستحقق مستوى عالياً من المقروئية ربما لا تحظى به كثير من الصفحات المقروءة اليوم. إن بعض ما ينشر في القضايا العلمية وخاصة الطبية، يحتاج لكثير من الاهتمام بما فيها إعادة النظر في السياسة التحريرية لتصبح أكثر قدرة على ممارسة إعلام علمي يخدم القارىء. فعلى سبيل المثال نشرت «الرياض» بالعنوان العريض في صفحة "طب" في عددها بتاريخ 28 صفر 1430ه " سحق النمل مع الخل يشفي البرص". ومع احترامي للدكتور جابر بن سالم القحطاني وتقديري للجهود الكبيرة التي يبذلها في نشر الثقافة العلمية في مجال طب الأعشاب. إلا نشر عنوان مثل هذا في صدر الصفحة بقدر ما هو عنوان شيق إلا أنه خطير أيضاً. جاء في النص ( هناك فوائد لبعض أنواع النمل حيث يقول الملك المظفر في كتابه "المعتمد في الأدوية المفردة" إن النمل الكبير إذا سحق مع الخل ولطخ به البرص أزاله ، وإن أخذ من النمل الكبير الأسود مئة نملة ووضعت في نصف أوقيه دهن الرازق وترك فيه لمدة ثلاثة أسابيع ثم يدهن منه الاحليل فانه يسرع في الانعاظ... وإذا سحق بالماء وطلي به الأباط بعد تنفها أبطل نمو إنبات الشعر فيها) . وفي ذات الموضوع بقول المحرر (يوجد في المملكة نوع من النمل الناري وهو اسود كبير ولسعاته أحيانا قاتلة ويسبب حساسية شديدة للشخص الملسوع ويجب محاربته والقضاء عليه). من يقرأ هذا ربما يصاب بحيرة، فالنمل الكبير عند الملك المظفر يشفي البرص بعد سحقه مع الخل. أما النمل الأسود الكبير الذي نحتاج معه إلى نصف أوقية من دهن الرازق لمعالجة الاحليل فهذه قصة أخرى. ومابين النمل الخطير الموجود في المملكة وهو النمل الناري وهو أيضا اسود وكبير، ومابين فوائد النمل في علاج البرص والاحليل والعودة لكتاب الملك المظفر، سيظل القارىء في حيرة من هذا الصحافة العلمية ومن هذه المعلومات العلمية التي تتطلب إعادة النظر في أهمية أو جدوى نشرها بهذه الطريقة. إنها معلومات تربك القارىء وتضعه في مأزق العودة لكتاب الملك المظفر، هذا إذا كان يعرف نوع النمل الكبير أو طبيعة دهن الرازق. ولا أعرف إذا كان الدكتور جابر قد تحقق من مثل هذه النتائج فعلا أو استند إلى دراسات علمية موثقة تؤيد ما ذهب إليه المظفر أو سواه أو أن الأمر سيترك للقارىء، وخبراء العطارة، ليجرب المصاب بالبرص، وربما خلط بين النمل الأسود بالناري فيصاب بكارثة. مازلنا نحتاج الكثير لوضع الصحافة العلمية في مشهد إعلام علمي تنموي حقيقي له شروطه وكفاءته وقدراته، وإلا سنفقد الكثير من وهج العلم على صفحات الصحف ونعود لنبحث عن كتاب الملك المظفر.!!