منعت سلطات الاحتلال إقامة احتفال القدس كعاصمة للثقافة العربية .!! وشاهد الناس بدلاً من الكتب ودور النشر شاهدوا وسائل القمع والقتل ، فحلت البندقية محل الكتاب ، وحل الجندي المدجج بالسلاح محل المثقف والأديب .. وحلت ثقافة القتل، والتدمير ، والعنصرية، محل ثقافة الفكر والإبداع. ليس غريباً أن يصدر هذا من حكومة قائمة في أصلها على سياسة الاغتصاب، والاحتلال، والتدمير، واسلوب البشاعة في كل شيء له علاقة بالإنسان وحقوقه. لكن الغريب هو صمت المثقف العربي، الذي مافتئ يتقبل ويستسيغ مثل هذا السلوك المشين، والحديث عن دور المثقف العربي حديث مؤلم وطويل، فدوره ليس ضعيفاً فيما يتعلق بشؤون الأمة فحسب، بل خرج من حدود الضعف إلى درجة المهادنة والمهانة. والواقع أن هذا الدور السلبي الذي يتحلى به المثقف العربي يدعو إلى الدهشة، والاستغراب، فالمثقف عادة وفي اي مكان هو ضمير الأمة، ولسان حالها، والمدافع عنها، وعن هويتها في كل المناحي، والشؤون. فكيف به إذا كان الموضوع يتعلق بما يمس حقله، ومنهجه وميدانه، وطبيعة، تكوينه الشعوري..؟! فلماذا يتخاذل المثقف، ويصدم المواطن العربي بهذه ال"لامبالاة" بينما تستفزه أمور صغيرة، فيثير حولها الجدل، حتى يحتدم الصراع، ويتطاير الشرر.. لا أزال أذكر تلك الصيحات، وذلك التباكي على تمثال"بوذا" الذي تعرض للقصف.. حينها ارتج العالم العربي ارتجاجاً خشينا معه أن يفقد توازنه، وثارت ثورة المثقفين، والدعاة لحقوق الإنسان من أجل الحفاظ على الموروث الإنساني، ورموز الثقافة وهياكلها، وعدم السماح للوحشية المظلمة بالمساس بها.. وقلنا حينها هذه غيرة ثقافية محمودة، غير أننا لم نسمع تلك الأصوات حينما دكت بغداد، وأحرقت مكتباتها، وتماثيلها، ومخطوطاتها، وكل ثقافتها التي تمتد لعشرة آلاف سنة.. فقد لاذ معظم المثقفين بالصمت ، ذلك الصمت المغلف بالريبة..!! وها هي اليوم مدينة القدس، وهي رمز ثقافي، وديني، وتاريخي عريق، تحاصر فيها الثقافة، وتذل، وتهان، بطريقة بربرية وحشية لا تمارسها الا امة خارجة عن القانون الانساني.. ولكم أن تتخيلوا دولة ترعبها الثقافة، ويخيفها الكتاب، تخيفها الرواية والقصة، والقصيدة، يخيفها الفكر، تخيفها المعرفة، تخرج عن طورها وتمارس الحصار على الثقافة، كما تمارس الحصار على حرية الشعب الفلسطيني.. تخيلوا دولة تستبدل الحبر، والورق بالبارود، والشرر، وتطلق النار على حروف الهجاء..!! إن إسرائيل تعطينا نماذج صارخة للخروج على الشرائع والدساتيرالإنسانية.. وانه لمن السماجة أن نرى كثيراً من صحف العالم العربي وهي مليئة بمماحكات، وآراء، وأقوال، كررت على أسماعنا منذ عقود إلى درجة الملالة والسأم، حول التراث، والحداثة، وقصيدة النثر، وعن التفكيكية، وما بعد الحداثة، فيما رقاب العرب تفكك في العراق وفلسطين، وفي أمكنة كثيرة.. نسمع قعقعة المعارك الكرتونية، ولا نرى أحداً من هؤلاء يتحدث ولو على هامش الحدث، عما يدار ويحاك من وأد للثقافة، وخنق لحرية الكلمة، وذبحها على يد الجيش الصهيوني..!! فلماذا كل هذا الصمت؟ لماذا كل هذا التواري والتملّص؟.. أغلب الظن أن بعض هؤلاء يخشى أن يحشر في زمرة المعادين لإسرائيل، وسياستها في المنطقة، والسياسة الغربية الداعمة لها.. وكأن ذلك يقلل من شأنه عند الملأ الذين يتآمرون على الأمة العربية، وعلى ثقافتها وأخلاقها.. وكأن إسرائيل ليست دولة محتلة، ولا مغتصبة، وليست قائمة في تكوينها على ثقافة القتل والقمع، والاغتيال، والإبادة، والتهجير، وكأن ثقافتها ليست مبنية على هرطقات توراتية مكذوبة ، فهي في الواقع تمارس ثقافة "هرمجدون" الخرافية حيث ينتصر اليهود، وتسود ثقافة أبناء الله، وشعبه المختار، وتتطهر الارض من العرب في معركة يسيل فيها الدم إلى رقاب الخيل، وينحدر إلى أكثر من مئتي ميل..؟!! لقد كانت إسرائيل ولا تزال مصابة بالسعار لنهش لحم الأطفال في فلسطين.. وكانت آخر وجبات سعارها لحم أطفال غزة الذي أكلته نيئاً ومشوياً ومحروقاً، واليوم تعاودها نوبة السعار ولكن لأكل الكتب، والقصائد، واللوحات الجميلة..!! وتصرف إسرائيل هذا مفهوم لدينا، فإسرائيل منذ تكوينها وهي تعيش حالة سعار مزمن ودائم، ومصابة بهستيريا القتل، والإبادة.. ولكن وكما قلت سلفا لماذا كل هذا الخنوع ؟! لماذا يقف المثقف العربي وهو أشد خجلاً من فتاة حيّيّة، أمام مجازر الأطفال، والمجازر التي تمارس على الكتب، والأقلام، والحبر، والمطبعة ؟ لماذا يتذعّر المثقف العربي من نقد إسرائيل ؟.. لماذا يرتضي بأن يكون مشاهداً على مقاعد المتفرجين ؟ هل هذا تواطؤ لا شعوري ضد القضية، ومن ثم فإن سلوكه هذا رسالة تأييد غير إرادية لإسرائيل مفادها: استمري فنحن صامتون..؟!!