علمنا التراث الفكري للقرن العشرين أن هناك أنماطاً مختلفة من المثقفين. وقد كان للمفكر الفرنسي جوليان بندا فضل السبق في كتابه الشهير «خيانة المثقفين» الذي صدر في الثلاثينات من القرن الماضي في التفرقة القاطعة بين «الكتبة» و»الكتاب»! «الكتبة» عنده هم مثقفو السلطة الذين يدافعون عنها ويبررون سياساتها حتى لو كانت قامعة للشعوب، أما «الكتاب» فهم هؤلاء المثقفون التقدميون الذين يقفون بجسارة ضد السلطة أياً كانت، لنقد ممارساتها في خطاباتهم المتنوعة التي تنحاز إلى مصالح الجماهير العريضة. ولا شك في أن الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر هو الذي أدى بكتاباته الثورية وممارساته العملية إلى بلورة نموذج المثقف الملتزم. ومن هنا أصبح التزام المثقف - ليس بقضايا أمته فقط بل بقضايا العالم كله - تقليداً سائداً في ممارسات المثقفين الذين ينتمون إلى ثقافات شتى. وعندنا في العالم العربي مثقفون ملتزمون كثر مارسوا نقد السلطة العربية المستبدة بشجاعة منقطعة النظير، ودفعوا الثمن غالياً من حرياتهم بل ومن حيواتهم في كثير من الأحيان. ويشغل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مكانة متميزة على النطاق العالمي في دائرة المثقفين الملتزمين. فهو رغم جنسيته الأميركية ومنصبه الأكاديمي باعتباره كان من أبرز نقاد الأدب في العالم، كان ملتزماً بقضية فلسطين وهموم العالم العربي، ليس ذلك فقط بل وبمشكلات الإنسانية بوجه عام. واليوم يأتي الروائي الألماني الشهير غونتر غراس الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1999 ليفجر قنبلة في وجه الدولة الإسرائيلية العنصرية، من خلال قصيدة نثرية نشرها في جريدة ألمانية عنوانها «ما ينبغي قوله». وقد أتهم فيها غراس إسرائيل بصراحة ووضوح بتهديد السلام العالمي، بحكم تلويحها بالهجوم المفاجئ على إيران لتحطيم مفاعلاتها الذرية، درءاً لخطر صناعة الإيرانيين لقنبلة ذرية يمكن أن تستخدم ضد إسرائيل. وقد أعرب دعاة السلام في ألمانيا عن تأييدهم غونتر غراس، إلا أن قصيدته أثارت غضباً شديداً لدى الدوائر الإسرائيلية الحاكمة، ولدى قطاعات واسعة من الرأي العام الإسرائيلي، الذين استطاعت أجهزة الدولة الإيديولوجية الإسرائيلية أن تزيف وعيهم وتجعلهم يتبنون سياسات عدوانية ضد الشعب الفلسطيني خصوصاً وضد الدول العربية عموماً. نشرت القصيدة المؤلفة من تسعة مقاطع شعرية في الصفحة الأولى من الملحق الثقافي لصحيفة «سودويتشي تزايتونغ» الألمانية وذلك في 4 نيسان (أبريل) الجاري. وأشار غراس إلى أن تزويد ألمانيا إسرائيل بالأسلحة والغواصات من شأنه أن يجعل ألمانيا تخاطر بتهمة تلحقها، هي التواطؤ في جريمة واضحة للعيان. لا أريد أن أسترسل في تعقب التعليقات المتعددة على قصيدة غراس وأفضل أن أتيح للقارئ العربي ترجمة كاملة للقصيدة قمت بها عن النص الإنكليزي الذي نشرته جريدة «الغارديان» البريطانية في 4 نيسان. عنوان القصيدة «ما الذي ينبغي قوله». «ما الذي جعلني أصمت ولا أتكلم حتى الآن؟ لأنني ظننت أن انتمائي الألماني مشوب بلطخة لا يمكن إزالتها، ولا أتوقع أن إسرائيل وهي الأرض التي تعلقت بها ولا أزال وسأبقى كذلك دائماً ستقبل جهري العلني بكلمة الحق. ما الذي جعلني أتكلم الآن بعد أن طعنت في السن، وبالحبر القليل الذي بقي لي أقول إن قوة إسرائيل النووية تمثل خطراً على السلام العالمي المتهافت بالفعل، ولأن الذي لا بد أن يقال لا يمكن تأجيله إلى الغد، ولأننا كألمان مثقلين بماضينا بالقدر الكافي قد نكون أمددنا إسرائيل بمواد قد يشكل استخدامها مخاطر يمكن أن تقع في المستقبل المنظور، ولذلك فإن ذنبنا لا يمكن غفرانه بالوسائل المعتادة لالتماس الأعذار. وأنا أقر أنني كسرت جدار صمتي لأنني ضقت ذرعاً بنفاق الغرب، وآمل بأن كثيرين يمكن أن يتحرروا من صمتهم، ويطالبوا هؤلاء المسؤولين عن الخطر المحدق الذي يواجهنا بأن يتخلوا عن استخدام القوة، وأن يصروا على أن تسمح حكومتا إيران وإسرائيل للهيئات الدولية أن تجري تفتيشاً حراً ومفتوحاً عن الإمكانيات الذرية التي يمتلكها كل طرف». هكذا تكلم الكاتب العالمي والمثقف الملتزم غونتر غراس. وإذا حللنا مقاطع القصيدة بتمعن لاكتشفنا أنها تتضمن إدانة قاطعة لسياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية التي لم تتوقف عن التهديد بشن حرب خاطفة ضد منشآت إيران النووية. وهي لم تمارس التهديد فقط بل إنها أعدت بالفعل خططاً جاهزة للتنفيذ. وهي تضغط بإصرار على الولاياتالمتحدة الأميركية لكي توافقها على شن الحرب الخاطفة، بالرغم من ممانعة الرئيس أوباما الذي لا يريد لبلاده أن تتورط في عهده في حرب غير مضمونة النتائج، قد يترتب عليها هزيمة عسكرية فاضحة، كما حدث لأميركا في كل من العراق وأفغانستان. ويلفت النظر في القصيدة أيضاً إدانة غونتر غراس للحكومة الألمانية التي تزود دولة إسرائيل بالأسلحة المتقدمة. وتشير بعض المراجع الفرنسية إلى أن ألمانيا عقدت صفقة مهمة مع إسرائيل لتوريد غواصات متطورة من ماركة «دولفين» Dolphin وذلك عام 2005. ولم يقنع غونتر غراس بإدانة كل من الحكومة الإسرائيلية والحكومة الألمانية ولكنه - أبعد من هذا - جهر بقولة الحق حين دان ظاهرة النفاق الغربي. وفي تقديرنا أن هذه الإشارة تحتاج إلى تحليلات متعمقة لأنها تتعلق بازدواجية المعايير التي تطبقها الدول الغربية حماية لمصالحها وتحت شعار أنها تدافع عن السلام العالمي. ولعل الولاياتالمتحدة الأميركية هي النموذج البارز لظاهرة النفاق الغربي، لأنها أولاً تدعي أنها حامية حمى الديموقراطية في العالم، مع أنها كانت وما زالت تحمي بعض النظم الديكتاتورية لضمان تحقيق مصالحها القومية. وهي تدعي أيضاً أنها المدافعة الأولى عن حقوق الإنسان مع أنها هي التي خرقت في شكل فاضح حقوق الإنسان في قضايا المتهمين الإسلاميين في قضايا الإرهاب، وكذلك في العراق وأفغانستان. أما النفاق المفضوح للدول الغربية كلها فيتمثل في الخوف الشديد لقادتها من نقد سياسات الدولة الإسرائيلية العنصرية الموجهة ضد الشعب الفلسطيني، وترددها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، إعمالاً لميثاق الأممالمتحدة وقبل ذلك كله احتراماً لحق الشعوب في الحرية والاستقلال. * كاتب مصري