شهدت الرياض في يوم 10 ربيع الأول 1430ه فعاليات ثقافية وسياسية مركزة . هذه الفعاليات تمثلت في عقد ندوة حوار الحضارات. وهذه الندوة المركزة جاءت ثمرة يانعة من دعوة خادم الحرمين الشريفين التي أطلقها على منبر الأممالمتحدة، داعياً إلى حوار بين الحضارات وبين الأديان وبين الثقافات المتعددة. قام على هذه الندوة ودعا لها كل من جامعة الملك سعود بالرياض وكلية الحقوق بجامعة باريس ديكارت ومرصد الدراسات الجيوسياسية بفرنسا، ودعمت الندوة كل من السفارة والملحقية الثقافية السعوديتين بباريس. تكمن أهمية مبادرة خادم الحرمين الشريفين نحو حوار بين الأديان في الثقل الديني الذي تمثله المملكة . اعتاد المفكرون العرب على استبعاد المملكة من أي حوار ديني، وذلك راجع إلى أسباب أن المملكة لا تعرف الثنائية الدينية كما يعرفها شقيقاتها، وأيضاً لسيادة النظرة الدينية المتشددة على حد زعمهم. كما اعتاد المفكرون الغربيون على استبعاد المملكة من أية حوار ديني، وهم يرددون في أدبياتهم السياسية استحالة انطلاق دعوة إلى حوار ديني من المملكة، وحجتهم في ذلك تتكئ على آية وردت في القرآن الكريم، التي تقول باستحالة قبول المسلمين من قبل أتباع الديانات الأخرى، إلا إذا تخلى المسلمون عن دينهم. والحقيقة أن الآية المشار إليها لا علاقة لها بالحوار الديني، ذلك أن هدف وآليات المحاورة لا تشترط رضا المتحاورين عن بعضهم البعض، ولا تشترط المحاورة تنازل المتحاورين عن أديانهم. فالمحاورة ليست تبشيراً دينياً ولا دعوة دينية. خادم الحرمين، وهو على رأس الأمة الإسلامية، خالف توقعات الإنتلجنسيا العربية والغربية، انطلقت دعوة خادم الحرمين بأهمية حوار الأديان ومن منبر عالٍ جداً، هو الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم تلقفتها دوائر السياسة والثقافة في مناطق كثيرة لا أحصي عدد الدوائر التي أخذت دعوة الملك عبدالله على محمل الجد، ولا أحصي تلك الدوائر الإسلامية والأجنبية التي تفكر في تفعيل المبادرة. تهدف مبادرة حوار الأديان إلى البحث في المشتركات الإيجابية بين الأديان، خصوصاً الأديان السماوية، ومن ثم الانطلاق نحو تعايش سلمي، يجنب سكان هذا الكوكب مشكلات وفتن وحروباً يتم شنها باسم الدين، والدين منها براء. بينما الواقع يقول إنها فتن ومشكلات وحروب تشن وتقوم بسبب مصالح سياسية أو اقتصادية أو شخصية. لقد عرف المسلمون في تاريخهم المبكر حواراً دينياً جرى بين أتباع الديانات السماوية الثلاثة في كل من بغداد وقرطبة وغيرها من حواضر الأندلس، اتخذ ذلك الحوار مسمى: الجدل الديني. والقرآن الكريم نص صراحة على ذلك بقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن. ولم يكن هدف المجادلة الدينية دعوياً أو تبشيرياً، خصوصاً أنه لم تسجل على مر التاريخ أن المسلم لديه القناعة للتنازل عن دينه لصالح دين آخر، إضافة إلى أن المجادلة عادة تتم بين علماء الأديان، وهؤلاء هم أبعد الناس عن ترك معتقداتهم. كانت المجادلة الدينية تهدف إلى إيضاح المسائل والمفاهيم والقوانين والنواميس في الدين الإسلامي، وعرضها أمام الآخرين الذين يتوجسون الخيفة من الإسلام، أو يقفون موقفاً عدائياً منه، أو يعارضونه ويحاربونه لأنهم يجهلونه، أو يحملونه أخطاء المسلمين. كانت ندوة الرياض أولى خطوات تفعيل مبادرة خادم الحرمين الشريفين، انعقدت الندوة في فندق الفيصلية، وتوزعت أعمالها على خمس ورش عمل مغلقة. وقدم السعوديون والفرنسيون أوراق عمل متعددة. وكانت الأوراق تتسم بالشفافية والصراحة والصدق، وبالتالي جاءت التوصيات سليمة تصب إيجابياً في مضمون مبادرة خادم الحرمين الشريفين. خلال مشاركتي في إحدى الورش وجدت الفريقين السعودي والفرنسي يريدان الوصول إلى أرضية صلبة لتفعيل مبادرة حوار الأديان. لقد قلت لزملائي في ورشة العمل المغلقة إن المشكلة القائمة بين اتباع الأديان ليست دينية لسببين: الأول أن الإسلام يعترف بوجود أديان، وأنها من السنن الكونية التي لا يجادل حولها. والثاني أن المجتمع والثقافة الفرنسية علمانيان. وبالتالي لا يجب حصر المشكلة في الدين، بل في مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى. وقلت لهم إن المشكلة الثقافية هي التي تصنف المجتمعات، وربما تعيق التحاور وقبول الآخر. والمشكلة الثقافية لها خلفيات تاريخية. هذه الخلفيات تقف عقبة كأداء أمام كل محاورة تجمع بين المسلم وغير المسلم. لقد سبب الاحتكاك التاريخي الذي وقع بين المسلمين والأوروبيين في العصور المبكرة والحديثة، بدءاً من حقبة الحروب الصليبية ، ومرورا ً بحقبة الاستعمار الغربي لكثير من بلاد المسلمين، وانتهاءً بالسياسة المنحازة لكثير من دول أوروبا ضد المصالح العربية والإسلامية، كلها تجعل مسافة الحوار متباعدة وشاقة. ومما نوقش بشفافية وصراحة مسألة تنزيه الأديان وحمايتها، وحماية المقدسات الدينية، ويأتي على رأسها الأنبياء والرسل والكتب المقدسة. وحمايتها من اعتداءات وتشويهات تتم في أوروبا تحت مسمى حرية الفكر والنشر والحرية الشخصية. المسلم يتطلع إلى أن تقوم أوروبا بسن قوانين تجرم كل إساءة تطال الأديان والأنبياء والرسل والكتب المقدسة تحت أية ذريعة. وفي ظني هذه بداية ضرورية للاستمرار في التحاور الديني ثم الانتقال للحوار الثقافي ثم الحوار الحضاري الشامل. توصلت ورش العمل الخمس إلى توصيات، جمعت ثم قُرئت في الجلسة الختامية التي عقدت في مركز الملك فهد الثقافي بحضور سفيري المملكة وفرنسا. ومن أهم التوصيات في نظري هي الحث على مواصلة الحوار، وأن يتم اللقاء الثاني بين الطرفين في العاصمة الفرنسية في عام 2010م.