محمد صديق من عمري تقريبا، لا يثق بصديق غيري حين يستسلم لحالات البوح، وأشعر به يرمي إلي بجملة وينتظر برهة الى أن يصله رد فعلي، حتى اذا ما رآني أغالب البكاء أو أجتهد في اخفاء الحزن قام وانصرف، غالبا دون تحية الوداع.. قال محمد انه لم ير وجه أمه التي ماتت وهو في شهور عمره الأولى، وبالتالي لا يعرف معنى لكثير من الحالات، لا يعرف ماذا يقصدون ب " تعلق الطفل بأمه" ، لم يجرب، ولا يعرف ما المقصود ب " حنان الأم " الذي ينتقل من صدرها الى الابن ، وحين كبرت قليلا وبدأت سنوات الدراسة لم أفهم ماذا يعنون بقولهم " الأم مدرسة " ، أعرف أن المقصود حسن التربية التي يتلقاها الطفل من أمه ولكنني لا أعرف كيف تكون "تلك التربية الحسنة " .. يتكلم محمد كثيرا عن فقدان الأم بحس من فقدان الوجود بكامله مادةً ومعنًى، لكن القصة التي كادت تقتلني حزنا كان يرويها عن واقعة عابرة وبسيطة ببراءة طفل ووعي عجوز، قال: كنا نلعب في ساحة صغيرة عند نهاية الحارة أنا والأطفال من حارتنا، وأخذنا حماس اللعب حتى بدأت الظلمة تتمدد على المكان عقب المغرب، أخذنا اللعب، وتوقفنا حين رأينا نساء الحارة قادمات الينا، نادت كل واحدة على ابنها فجرى اليها لتعود به الى البيت، فجأة وجدت نفسي أقف في وسط الساحة وحدي لا أعرف أين أذهب، لحظتها عرفت لأول مرة أنني يتيم..! يذكر محمد توجيهات مدرس الحساب الى زملائه الصغار : " خللي أمك تساعدك في حل المسائل وتشرح لك "، توجيه لكل تلاميذ الفصل وأنا وحدي الاستثناء، ويذكر حين كانوا يتسلمون شهادات الفصل الدراسي الأول، أحد الأطفال يقول " أمي ستضربني حين ترى الشهادة" وآخر يقول : " أنا دايما أمي تقول لي يا حليلا ولدي شاطر وتقبلني " وفي الحالتين الأم موجودة لكل منهما، أما أنا فقد كنت أترك الشهادة بدرجي بالمدرسة الى أن يطلب المعلم تسليمها فأواجه من المعلم نفس الموقف المتكرر: " لماذا لم يوقع ولي الأمر على الشهادة؟ " وأقول : أبي لا يعرف القراءة أو الكتابة، فيسأل: وأمك؟، فأقول " ماتت " ولا أنتظر رده، أهرب سريعا من أمامه.. يتساءل محمد أحيانا: هل جئت الى الدنيا من أم ككل الناس؟، وتندو عني ابتسامة هو يفهمها جيدا، تحتشد بالألم والحيرة والعجز عن الكلام والرغبة في تجاوز السؤال والتهوين من الأمر وكثير من المشاعر المتناقضة والمتضاربة، ابتسامة ارتباك تدهشه وتربكه أيضا فيبدأ في التخفيف عني: " خللني أخوك، أو اعطني أمك تتبناني " . يا الله ... يحكي محمد .. ذات مرة سألت أبي: هل كانت أمي طيبة؟ لم يرد، عدت أسأله: هل كانت جميلة؟ صمت، واصلت : هل كانت شديدة، عنيفة، قاسية، رحيمة، كسولة، نشطة... ، أكتشف أنني أتحدث في فراغ البيت لأن أبي – لسبب لا أجزم به – تركني وانصرف دون أن يستمع بقية الأسئلة، كنت أريد أن يجيب بكلمة واحدة ، نعم أو لا لكي أستطيع أن أحب أمي الغائبة حنونة أو قاسية، أحبها جميلة أو دميمة، نشيطة أو كسولة، لم يجب ولم أستطع أن أحدد كيف أحبها ..! ويحكي، حين كبرت قليلا لجأت الى الخالات أستجدي الكلام عن أمي، حكايات متناقضة اكتشفت منها أن كل واحدة منهن تتحدث عن مشاعرها هي لا عن صفات متفردة لأمي، بحثت بكل الوسائل للحصول على صورة لها لأحكم بنفسي على شكلها، لكي أعرف الى أين أوجه حبي للأم، وحين عجزت عن استجماع صورة خيالية لها أو صورة فوتوغرافية عرفت أنني كنت أحاول محالا، أحاول استعادة أمي الميتة..! حكايات محمد تملأ صدري، لا تغيب عن ذاكرتي لحظة حيثما رحلت، تأتي إلي دائما بوجهه الطيب ليملأ أمامي كل الفراغات، أحزن وأمني نفسي بأمل أن يكون قد بدأ ينسى كل تلك الأسئلة، لكنني عندما رأيته مؤخرا سألته: لديك أولاد؟ قال: أعيش وحدي ولم أتزوج. في بعض البلاد يحتفلون بالأم في يوم لها ( 21 مارس من كل عام ) يقدمون للأم الهدايا ويبالغون في التعبير عن مشاعر الحب والشوق والعرفان، وربما يذكرونها بشدة في ذلك اليوم وينسونها بقية العام، وكلما قرأت عن حادثة أهان فيها الابن أمه أو الزوج زوجته وهي الأم لأولاده، أو أغضبها أو أشقاها أو تخلص منها أو .. أو .. قلت لنفسي: " لأنهم لا يعرفون صديقي محمد "