مما لا شك فيه أن التعليم بشقيه العام والعالي يحظى باهتمام بالغ من لدن القيادة الحكيمة وهذه البلاد المباركة ولذلك انتشر التعليم وتوسعت قاعدته حتى شملت جميع أصقاع البلاد. هذا وقد تجاوزت أعداد المنتسبين إلى التعليم في المراحل المختلفة ما يربو على خمسة ملايين طالب وطالبة. وقد كان الكم في الماضي يغلب على الكيف بسبب حاجة البلاد إلى المتعلمين بغض النظر عن التخصص. أما اليوم ومع التقدم المتسارع في التقنية وبروز المنافسة على فرص العمل وتطور أساليب العمل ومتطلباته وكذلك التحول الكبير الذي يتطلب أن تكون مخرجات التعليم متوافقة مع متطلبات سوق العمل ناهيك عن تطور الأساليب التعليمية والتربوية كل ذلك فرض حراكاً لا يهدأ نحو إصلاح وتطوير بنية التعليم من القاعدة حتى القمة من أجل الوفاء بهذه التوجهات جاء مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - لتطوير التعليم العام تجسيداً لاهتمامه حفظه الله وإدراكاً منه بأن التعليم هو استثمار في العقول التي هي المعول عليه لتحقيق التطور والنماء والرخاء. كما أن صدور أمره الكريم بتعيين سمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد وزيراً للتربية والتعليم يصب في ذلك المضمار على قاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب ذلك أن لسموه الكريم اهتمامات عديدة كلها تصب في دائرة التعليم والمعرفة والدراسات الاستراتيجية ذات العلاقة، فهو يرئس ويدير مجموعة الأغر للفكر الاستراتيجي والتي صدر عنها عدة دراسات منها استراتيجية المملكة العربية السعودية في التحول إلى مجتمع المعرفة، بالإضافة إلى كتاباته العديدة في مجال المعرفة والعلوم والتقنية والثقافة، ناهيك عن اهتمامه بالابتكار ومفرداته. من هذه المنطلقات يمكن القول إن مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام سوف تكون له الأولوية القصوى من لدن سمو وزير التربية والتعليم ونوابه، وبما أن الإصلاح والتطوير يشمل جوانب متعددة يمثل البعد التقني أحد جوانبها، فإنني سوف أستعرض بعض المعوقات والصعوبات التي تواجه تطوير وإصلاح التعليم في العالم العربي والتي على ضوئها يمكن القياس لما هو متوافق معها في المملكة التي هي جزء منه. وعليه فإن الحديث عن التعليم يعتبر ذا شجون وذلك بسبب ارتباطه المباشر بكل مفاصل الحياة وهيمنته عليها، وبالتالي يعتبر إصلاحه وتطويره ذا أولوية قصوى لمن ينشد صنع مستقبل أفضل. إن التعليم المتميز هو الركيزة الأساسية لمجتمع المعرفة وهذا هو المجتمع الذي يصنع التقدم والنماء والرخاء، ولذلك تتسابق الدول المتقدمة وكذلك الدول النامية التي تنشد التقدم وتتعامل مع التعليم على أساس أنه القوة الرئيسة المؤثرة في التنمية البشرية وهذا بدوره هو عماد النهوض بالمجتمع وتحوله إلى مجتمع معرفي. العلم يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يخفض بيت العز والشرف إن قضية إصلاح التعليم وتطويره أصبحت ذات أهمية كبرى وذلك بسبب أن التعليم بصورة عامة والتعليم العام بصورة خاصة هو المدخل الحقيقي للتنمية الشاملة المتكاملة والمستدامة. لكن عملية الإصلاح والتطوير تجابهها مجموعة كبيرة من المعوقات والصعوبات المؤثرة والفاعلة، ولا شك أن تلك الصعوبات والمعوقات بعضها داخلي والبعض الآخر خارجي. نعم المؤسسات التعليمية في أي مكان وزمان هي وليدة المجتمع الذي تنشأ فيه فهي تؤثر فيه وتتأثر به. من هذا المنطلق فإن أول خطوة في سبيل الإصلاح والتطوير يجب تكون تحديد معالم المؤسسة التعليمية ودورها في بناء المجتمع من منطلق أن التعليم هو اللبنة الأساسية في بناء مجتمع متماسك، واع، مستنير مدرك لما هو مطلوب منه من واجبات ومدرك لما له من حقوق، وهذا يترتب عليه التعرف على التحديات والصعوبات والمعوقات المختلفة التي يواجهها تطوير التعليم. إن الصعوبات والمعوقات التي تقف حجر عثرة أمام عملية الإصلاح يمكن أن تكون ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية، كما أن بعضاً منها تتمثل في التقدم المتسارع للثورة التكنولوجية ليس هذا فحسب بل إن تحديات التخطيط والنمو السكاني ومخرجات التعليم والبطالة وقبل ذلك وبعده تحديات الوضع القائم للتعليم. إن عملية الإصلاح والتطوير تفرض أن تؤخذ هذه التحديات بعين الاعتبار جملة وتفصيلاً وإيجاد حلول لكل منها وذلك من أجل خلق اتساق في الحراك نحو خلق تعليم متميز يعتمد عليه في عملية التحول إلى مجتمع المعرفة الذي ننشده والذي بدوره يستطيع أن يحقق التنمية المستدامة من خلال بناء اقتصاد المعرفة. ٭ وإذ أخذنا المعوقات واحداً واحداً نجد أنه في الجانب الثقافي يواجه مجتمعنا تحديات فكرية وثقافية هامة وخطيرة وربما يعزى بعض منها إلى ثورة الاتصالات والمعلومات لأنها فتحت آفاقاً رحبة وواسعة لم تكن معروفة من قبل ولا شك أن تلك الآفاق الجديدة بعضها إيجابي والبعض الآخر سلبي. والمصيبة أن الجزء السلبي يلعب دوراً بارزاً في فلسفة ومرجعية التفكير وبالتالي التوجهات المبنية عليه. ولا شك أن لذلك كله ارهاصات متعددة يأتي الغزو الثقافي كأحد معالمها وهو الذي يستهدف الثقافة الوطنية والتأثير في عملية إعادة إنتاج هويتها وفق قوالب مسبقة الصنع والتوجهات. إن الثقافة العربية تتعرض لهجمة شرسة من أجل تفكيكها وتفككها ومن ذلك التشكيك في قدرتها على مواكبة التطور وصعوبة اللغة العربية وقدمها وتشجيع العامية على حساب الفصحى وإدخال كثير من المفردات الأجنبية في لغة التخاطب والإعلام والإعلان وحتى التحاليل الاقتصادية والسياسية. وما أسماء المحلات التجارية والأسواق وأسماء الشركات والمطاعم والألعاب وحتى أسماء الملابس والأدوات المدرسية إلا جزء من ذلك إن الحرب على الثقافة العربية ولغتها تدور رحاها على قدم وساق والشيء الأكثر إثارة أن يوجد أفراد وجهات هدفها العمل على تغريب المجتمع وخلخلة ثقافته ولغته الوطنية. إن الانفتاح على الآخر مطلب يجب أن نعمل من أجله لكن ليس إلى الحد الذي نفقد معه الهوية الثقافية الوطنية التي تميز هذه الأمة، خصوصاً أننا نرى أن الأمم التي فقدت هويتها الثقافية أصبحت مسخاً ليس له انتماء أو مرجعية. وللأسف يوجد من العرب من يحارب الثقافة العربية بينما هم وغيرهم يشاهدون اليهود يحيون اللغة العبرية التي كادت أن تندثر ويبنون لهم ثقافة تميزهم حتى ولو كانت مسروقة. إن الحرب المفتوحة على الثقافة الوطنية تهدف إلى تبديل منظومة القيم الإيجابية السائدة في المجتمع ودفعه إلى تبني ثقافة مهلهلة ليس لها انتماء أو مرجعية وطنية، وعليه فإن من أهم واجبات المؤسسات التعليمية والتربوية أن توازن بين الانفتاح المفيد والمحافظة على الهوية والثقافة الوطنية وذلك من خلال بناء أجيال واعية تدرك واقعها الثقافي والاجتماعي ولديها القدرة على تخطي المحلية والتواؤم مع العالمية دون المساس بالثوابت بالإضافة إلى بناء عقول جديدة تتعامل مع المتغيرات العالمية بانفتاح ولكنها تقاوم أساليب التغريب والتذويب والهيمنة بأشكالها المختلفة. ٭ أما من الناحية الأخلاقية فإن منظومة القيم في المجتمعات العربية تتعرض لاضطرابات هائلة ولعل من أبرز معالمها ظهور صور كثيرة للفساد وعدم الانضباط ناهيك عن تقنين ذلك. أما الانحرافات السلوكية والتي يتمثل بعض منها في تفشي الكذب والغش والسرقة وعدم احترام الصغير للكبير وانحسار هيبة المعلم والوالدين وغيرها مما يتم القضاء عليه بصورة مبرمة بأساليب بعض منها يندرج تحت مسوغات تربوية. لذلك فإن تطوير التعليم يفرض عليه أن يتجاوب مع أمراض العصر ويحاربها والتي تتمثل في كثير من التحديات الأخلاقية مثل السيادة المادية، والانحراف الأخلاقي والسلوكي، والإرهاب والمخدرات والأمراض النفسية والعزلة والانطواء، ومن ناحية أخرى على التعليم المتطور أن يعلم النشء ثقافة الحوار والانفتاح والوسطية والبعد عن التطرف ناهيك عن تعليمهم ثقافة التخاطب والتعامل والثقافة المرورية وترسيخ العادات الحميدة بالإضافة إلى تحصينهم فكرياً من خلال توسيع دائرة الأمن الفكري وأهمية الوطن ووحدة الكلمة وتربيتهم على المواطنة الصالحة. إن الأمن الفكري يجب أن تغرس جذوره وفلسفته وأبعاده من خلال التعليم منذ وقت مبكر وأن يكون القائمون عليه ممن يحظون بالقبول والتأهيل والقدرة على الاقناع. إن التعليم الجامد الذي يعتمد على التلقين والحفظ والتركيز على المعارف فقط هو المسؤول عن عدم نضوج الشباب في المجالات الأخلاقية والفكرية وعدم القدرة على المواجهة. لذلك فإن التعليم المتطور يجب أن يكون من أبرز أولوياته التركيز على الأهداف السلوكية والأخلاقية. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ٭ أما من الناحية الاقتصادية فإننا جزء من هذا العالم المضطرب والذي يلعب الاقتصاد فيه دوراً أساسياً وتلعب الدول الكبرى وشركاتها الاحتكارية الدور الأساسي في سن القوانين وإنشاء المنظمات التي تمكنها من التحكم بمخرجاته ومجرياته، وذلك مثل منظمة التجارة العالمية والتي ترتب على إنشائها حرية التجارة واضمحلال الحدود ولهذا التحدي تبعات تتمثل في أن عوامل الاتقان والجودة والتفوق هي التي سوف تتحكم في السوق وهذا كله يصب في مصلحة الدول الكبرى لأنها هي من يملك مقومات تلك العوامل وهي المرجع في كل ذلك. من هذا تظهر أهمية إصلاح وتطوير التعليم باعتباره أحد عوامل الإنتاجية وتحقيق الجودة في المنتج البشري وبالتالي الصناعي، وذلك من خلال العناية بجودة المعلومات والمعارف التي يكتسبها الفرد من خلال التعليم أولاً والتعليم ثانياً والتي تمكنه من أن يكون لديه مهارات جديدة تمكنه من تحسين الأداء ومواجهة احتياجات السوق ومتطلباته. نعم إن التقدم الاقتصادي يتأثر بنوع التعليم وجودته وخير دليل على ذلك بروز اقتصاد المعرفة الذي أصبح الحلم الذي ينشده الجميع. ولعل الاحصائيات التي أوردتها منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي والثقافي الأوروبية تثبت ذلك حيث أشارت تلك الاحصائيات إلى أن توزيع القوى العاملة في عام 1940م كان على النحو التالي: 30% في مجال الزراعة، و50% في مجال الصناعة، و20% في مجال الخدمات. وأضاف التقرير إلى أن توزيع القوى العاملة عام 2010م سوف يصبح على النحو التالي: 4% في مجال الزراعة و5% في مجال الصناعة بينما قطاع الخدمات سوف يستحوذ على 91% منهم. ولا شك أن هذا التوجه ينسحب على مجتمعات الدول النامية بصورة متفاوتة. نعم إن هذه التحولات تفرض على المؤسسة التعليمية تحديات يجب عليها أن تواجهها وذلك من أجل تحقيق الجودة التي هي الضمانة الوحيدة لضمان منافسة مخرجاتها في ضوء الواقع الاقتصادي المحلي والذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي والذي ضمان صموده وتطوره لا يقبل انصاف الحلول. ٭ أما من الناحية السياسية فإن منطقتنا تعتبر من أكثر مناطق العالم توتراً وقابلية للنزاعات وذلك بسبب النشاط الإسرائيلي التخريبي الذي لا يهدأ فما حدث في العراق ولبنان وغزة ودارفور والصومال وغيرها من مواقع الإنتاج ناهيك عن وجود بؤر للعصبية القبلية وبروز الطائفية والتنافس غير الشريف بين الدول ليس هذا فحسب بل إن ظهور الإرهاب والأطماع الخارجية ووجود مشاكل قديمة مستعصية مثل ندرة المياه والتصحر ومشاكل الحدود والضغوط الخارجية كله يؤدي إلى أن تظل منطقة الشرق الأوسط موتورة بصورة مستمرة. إن وجود مثل تلك السلبيات مع تدني مستوى الوعي الفكري والسياسي ووجود من يحرض ويدعم ويسهل مهمة الأعداء. من هذا تتضح أهمية الدور الذي يجب أن يلعبه التعليم المتطور في تربية النشء وإعداده للحياة الآنية والمستقبلية - خصوصاً أن العالم يتحرك نحو الغاء الحدود الاقتصادية والثقافية. ولا شك أن المعطيات القائمة والمستقبلية ربما تفرض توجهات مادية ومعنوية تؤدي إلى قيام عالم بلا حدود سياسية والذي هو جوهر العولمة السياسية والذي بدأت تظهر أولى معالمه من خلال استغلال الدول الكبرى للمنظمات الدولية من أجل فرض أجندتها وتدخلها في شؤون الدول الأخرى وذلك على غرار ما حدث في العراق وأفغانستان وغيرهما. (يتبع)