كذب الظن لا أمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء فمنذ فترة غير قصيرة والمرحلة التي يعيشها لبنان السياسي هي من النوع الغامض والمأزوم الذي لا ينفرج في معالجته لا طبيب مكسيكي ولا خبير بلجيكي كما كان الشاعر عمر الزعني ينشد في يوم من الأيام من غير أن يلقى غير الآذان الصماء عند الحكّام. ولعل وليد جنبلاط هو السياسي اللبناني الوحيد المهتدي بوضوح الى أن المسيرة السياسية اللبنانية باتت اليوم بل منذ زمن بعيد بحاجة ماسة الى عنصر أساسي يكون هو البوصلة التي تهدي عربة الحكم الى سواء السبيل، وما هذه البوصلة الا العقل السياسي العارف الطريق الذي لا يجوز أن يكتفي بالتقييم الصائب للمسار من أعلى بل لا بد له من أن ينخرط في تيسير العملية السياسية وتصويبها وتفعيلها. ولا يكفي أن تكون السلامة مؤمنة في الكامل في رأس الدولة ورأس الحكومة، بل لا بد من أن تكون حركة السياسة اللبنانية كلها في البلد منخرطة بفعالية وعقلانية تعيدان للديموقراطية اللبنانية أيام عزها الكامل. لبنان الاشعاع الذي كان في وقت من الأوقات حقيقة وديمقراطية الجدوى التي تحدث عنها رئيس الحكومة الحالية بدقة، هذان المفهومان لهما رموز بل نجوم بدون وجودها في السلطة لا لبنان الاشعاع يسترد ولا ديموقراطية الجدوى تقوم. ولقد برهنت الزعامة الجنبلاطية بشخص كمال جنبلاط في ماضي الزمن وشخص وليد جنبلاط الآن أنها بالعقلانية واللمسة الانسانية، بالمثالية والواقعية كانت قادرة دائما على اشعار اللبنانيين كلهم بأنهم أقوياء بقوتها. ان لبنان ما آمن جديا بأنه كان بالفعل وطن الاشعاع الا عندما تراجع الى حد أو آخر ذلك التنوّع والتعدد في النوعية التمثيلية لوزرائه ونوابه. فاذا كان لبنان يريد فعلا وبالمعنى الايجابي للكلمة ان يسترد ديناميته وطنا للطوائف والوظائف والمصارف والمصايف فان ذلك لن يتحقق الا بحشد الكفاءات ذات الاشعاع السياسي في حكومة واحدة ما أحوجنا اليوم اليها على أيدي الرؤساء الموجودين والذين نؤمن كل الايمان بقدرتهم على اعادة خارطة هذه الحكومة بما يشحن النفوس بالتفاؤل. لقد تجسد الدور الجنبلاطي سواء مع المرحوم كمال جنبلاط أو ابنه وليد جنبلاط في ثنائية نادرة المثال والفعل سحر الزعامة وفعل الكفاءة . عرف بنو معروف من أبناء الطائفة الدرزية في لبنان وسوريا والمغتربات بذهابهم من منطلق مذهبي في تكريم العقل الى حد التقديس وقد انعكس ذلك جاذبية ومهابة على زعمائهم كوليد جنبلاط ووالده من قبله. فوليد في لبنان اليوم نسيج وحده في الهم والحركة من أجل وحدة اللبنانيين وهو ينظر الى كل صفقة تقرّب اللبنانيين بعضهم الى بعض على أن تنقل وطنا بكامله من حال الى حال . ما دام العقل يقضي أولا وقبل كل شيء آخر أن ترتفع بين اللبنانيين راية الوحدة فلا يجوز أن يقف دون ذلك اي اعتبار فالخلافات والحساسيات كلها يجب أن تطوى لمصلحة الهدف الواحد وهو اعادة الوحدة بين اللبنانيين. بهذا الهدف ينبغي على الجميع الالتزام خصوصا في الجبل الذي سماه امين الريحاني قلب لبنان، فمنذ ان صارت الوحدة عنوان الوطن لم يعد جائزا للبناني ان يؤخر ذلك، فمصلحة الوحدة بين اللبنانيين هي التي يجب ان تراعى وتتقدم على كل ما سواها من اعتبارات. فلا شرط على الوحدة بل كل التسهيلات وكل التنازلات أمام أي وحدة تجمع اللبنانيين سواء في أصغر قرية أو أكبر مدينة . لا شروط على الوحدة بل كل التنازلات من أجلها. من أكبر مدينة الى أصغر قرية عودة روحية الشعب الواحد تكون مقياسا للتصرف. بورك تراث قوم في جبلنا اللبناني هم بنو معروف لا يؤتى فيه عندهم على ذكر كلمة العقل الا مقرونا من قبيل الاجلال بكلمة ..مولانا. الى هذا الحد ذهبوا سباقين حتى التقديس في اجلال العقل الذي هو ميزة المعري عن الظن ببيت له شهير هو "كذب الظن لا امام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء!" منذ زمن غير قصير والدعوة الى العقل لا تغيب عن لسان الزعيم وليد جنبلاط فهو يرى ان اللبنانيين لا يمكن ان تصفو حياتهم وتستقر أحوالهم الا اذا هم اعتمدوا العقل والعقلنة في تعاملهم بعضهم مع بعض ومع اخوانهم العرب والعالم . وهو بهذا ناصح للقريب والبعيد معا. فاذا كان العقل أوجب ما يكون داخليا في لبنان التعددي بكثرة طوائفه وتنوّع ثقافاته فهو ضروري أيضا دوليا وعربيا لمنع اسرائيل من الافادة من الفرص لممارسة عدوانيتها على لبنان والعرب. واذا كان العقل مطلوبا لتحقيق الاصلاحات المتتالية التي كان ينادي بها جنبلاط الأب فهي مطلوبة عند نجله لتأمين المثاليات والواقعيات معا. ولا نقول هنا الا ما يقوله الناس العاديون من أن الوضع اللبناني القائم الآن على قاعدتي جماعة 8 آذار وجماعة 14 آذار لا يبدو مطمئنا الى الحد المطلوب ولم تولد بعد تلك الصيغة الجامعة التي يطمئن لها كل لبناني. ومن هنا أهمية الزعامات ذات الأفق على غرار جنبلاط الابن الذي دلت الأيام على أنه داعية المثالية والواقعية معا. وكلاهما ضروري للبنان اليوم. لاسيما وقد كان لما جرى في غزة أثر في وعي كل بلد عربي من حيث اصبح توقع الشر دائما ما دامت اسرائيل على قوتها وعدوانيتها وصداقاتها الدولية فالعقل السياسي على غرار وليد جنبلاط ما كان ضروريا في يوم للبنان خاصة كما هو الآن. لقد ذهب لبنان في التشريق والتغريب أكثر مما يتحمل ولا بد من دور أكبر لأصحاب التجارب من أهل السياسة الذين لا يكتفون بالانضمام لهذا التيار أو ذاك اللذين يطغيان حاليا على لبنان بل يكون لهم من قوتهم الذاتية ومن حذقهم في أخذ القرار ما يجعل لبنان قادرا على المضي الى الأمام بدون تبني كل وجهات نظر أي من التيارين الحاليين. وهذا بالمناسبة ما يبدو أن رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان كان قد وصل اليه نتيجة قوة مركزه وقوة شخصية وتراث وطني في الوقت نفسه. ولولا ذلك لبقي لبنان غير قادر على السير الى الأمام دون الوقوع في أسر الشعارات المثالية بحرفيتها. وقد دلّت الحفلة التي أقيمت لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة في صيدا على أن عاصمة الجنوب مؤيدة بحماسة للطريق الذي يسير فيه مستوحيا اجتهاداته وضميره الوطني الذي عرفته به صيدا منذ أن كان شابا الى أن صار سياسيا ورجل دولة. وما السياسة بالمعنى الصحيح، الا أن لا تترك الأحداث تملي عليك القبول بمواقف معروفة سلفا بأنها ضارة بقضيتك. بين مجموعة الزعماء ورجال السياسة في لبنان عديدون وان عد كثيرون، يمكن أن تثق بصدقيتهم وعقلهم وبمعرفتهم ماذا يريدهم الناس أن يفعلوا وكيف والى أي صف ينحازون ومنهم من كان مجرد ذكر اسمه تستطيع سلفا أن تقدر نوعية رد فعله، ولست من الذين يعتبرون أن المصلحة بالمعنى الرخيص للكلمة هي الموجهة أولا وأخيرا لكل الناس ولكننا نميّز بين الذين يحاسبون أنفسهم بأنهم مسؤولون عن اتّخاذ الموقف الأسلم لبلدهم وبين الذين لا يبلغون في التشدّد مع نفسهم وغيرهم الى هذا الحد فيتركون للغير ان يفعلوا. ولعل الزعيم وليد جنبلاط، هو من القلة القليلة التي يطمئن اليها الناس ليس على حسن نيته فقط بل على اصالة تجربته السياسية أيضا. فهو ليس ابن كمال جنبلاط فقط ولا حفيد السيدة نظيرة والأمير شكيب ارسلان فقط، بل هو خصوصا صاحب الخبرة والتأمل العميق في الأحداث وفيما يناسب خير شعبه وأمته في وقت قد لا يكون فطنا على احتمالاته الا القلّة القليلة من النّاس. الخبرة والمعرفة بالشؤون اللبنانية اللتان لا تتوفران لعدة أسباب عند غيره من البعداء أو القرباء البسطاء من الناس والزعماء نجدها مكتملة عنده أولاً لأنه يعرف كل ما عرفوا ويدرك كل ما كانوا يدركون مضافا الى ذلك ما عرفه غيرهم أيضا. انّه ابن لزعامة وحفيد لزعامة ولكنّه يملك من التجارب ويعرف من الحقائق فوق ما عرفوا وجسّد أكثر مما عاشوا فلا هو بالجبلي غير المحيط بالوطن كله ولا هو بالمسافر الى الرؤى والتخيلات دون المرور بأرضية الأحداث كل الأحداث. انه الواقعي المثالي أو المثالي الواقعي، يعرف لبنان ويعرف البلدان العربية ويعرف العالم وهو هادىء دفين الحسابات أكثر من كل سلف، غيور على وطنه كل وطنه، وناسه كل ناسه. تحدثوا عن العقل، لكنّه عاش العقل كجدته الزعيمة في خياراته وحياته أكثر مما فعلوا.