اذا كان مجرد عدم الموت هو مرادف للحياة، فان لبنان صاحب حق في ان يصنف نفسه بشاطر حسن الاسرة الدولية، بل وان يعتمد نشيداَ وطنياً له قول المتنبي: كم قد قضيت وكم قد متّ عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن! ولكن اذا كنا نريد ان نكون جديين بعيدين عن رشوة الذات والسكر بالكلمات، فعلينا ان نبدأ بالاعتراف بأنه حين كانت وسائل الاعلام تقدم لبنان على انه بلد الطوائف والمصايف والمصارف القادر دائماً على تدبير اموره وفقاً للقاعدة السياسية والاقتصادية القائلة : ان تحكم اقل هو ان تحكم افضل، فان الهزات الموسمية التي تعرض لها هذا الوطن في تاريخه كانت تشهد في كثير من الاحيان بغير ذلك. ولعل التشاؤم السياسي لم يتملك شعب لبنان ونخبه في فترة زمنية كما يتملكه الآن. لم يكف حتى الاجماع السياسي اللبناني على انتخاب العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية في ظاهرة انقاذية قليلة المثال في تاريخ الوطن، لطمأنة اللبنانيين نهائياً وبشكل حاسم ونهائي على مستقبل لبنان الدولة والوطن والشعب. ويجيء المشهد السياسي اللبناني الذي يعيشه كل اللبنانيين، مجسداً في النزاع بين قوى السلطة وقوى التعطيل، وكأنه مصنوع صنعاً بيد ماهرة وكارهة في الوقت نفسه، بقصد تشويه الصورة الايجابية التي للبنان في عالمه العربي اولاً، وفي العالم بشكل عام، الى حد بعيد. شارع بيروت السياسي، ذلك اللاعب التاريخي المؤثر في معادلات المنطقة، والذي يتذكر كل عربي عريق فضله على جهاده من اجل استقلاله وحرية شعبه، شارع بيروت هذا بحركاته الطلابية وغير الطلابية، واستقلالية صحفه وحيوية جدله الفكري ومستوى زعاماته التاريخية الصلبة في قراع الاستعمارين الجديد والقديم وفي تحريك المشاعر الوطنية والقومية، شارع بيروت هذا كان خلال مدة طويلة وما يزال، مدرسة سياسية كبرى يفيد منها كل بلد عربي، لا لبنان وحده. كان لبنان خلال نضاله الطويل من اجل استقلاله وبعده، احد مصادر التصويب والدعم للعمل الوطني في كل بلد عربي. لم يفده شيء كما افاده، رغم الصدامات والمرارات والفتن، التعدد الديني والمذهبي، وتعدد صروحه الثقافية وجامعاته ومدارسه وصحفه. في عهد الاستقلال عام 1943، كان لبنان طليعة منطقة عربية صاعدة، وهو الآن مهدد بأن يكون مؤشر ولادة مرحلة تراجع في المنطقة، من حيث تماسك نسيجها البشري وصعود عصبيات وخلافات في بلدان عربية عدة قد تكون على المدى الطويل اقل قدرة على التعايش في ما بينها، مما كان لبنان ولا يزال قادراً على تعامل فئاته بعضها مع بعض. فسنة الستين مرت في لبنان منذ زمن طويل ولن تعود على الاغلب، بينما هنا وهناك في المنطقة بذور لخلافات ربما لا تكون اسهل مما عاش لبنان في ماضيه البعيد، اذا لم تبادر الكيانات العربية القائمة على مواجهته وهو لا يزال بعيداً عن الاستفحال. كانت حكاية الزعامتين اللبنانيتين الجبليتين؛ آل جنبلاط وآل ارسلان، منذ زمن بعيد، قطب الرحى في سياسة الجبل اللبناني، وهو الجبل الذي جرى تفصيل الدولة اللبنانية على قياسه ولمجده، منذ قرار الجنرال غورو الفرنسي بانشاء دولة لبنان الكبير في اعقاب الحرب العالمية الاولى. ولكن، سرعان ما تلخصت رسالة هذا الوطن في داخله وفي محيطه، بظاهرة جديدة هي شارع بيروت السياسي. فهذا الشارع اصبح هو الرمز الوطني القيادي، وهو البوصلة المسددة لمسيرة الوطن بشكل عام. لقد ورث الشارع السياسي لمدينة بيروت العصبيات والتكتلات الجبلية في التعبير عن تطلعات شعب لبنان. فهذا الشارع، شارع بيروت، بحركاته الطلابية والنقابية والسياسية هو القادر وحده على تصنيف التيارات السياسية في البلاد مع وضد. ولعل عبقرية رجل سياسي كرياض الصلح، او في فترة لاحقة كمال جنبلاط، هي في ادراك الدور الوطني الشمولي لشارع بيروت السياسي الذي اصبح الوريث لما كان جبل لبنان يمثله في فترات سابقة، حين كانت حزبيات الجبل هي المحددة للخط الوطني. لقد انتقل مركز الثقل في تمثيل الارادة اللبنانية من الجبل الذي كان وحده اسمه لبنان في العهد العثماني، الى شارع بيروت الذي تحول منذ عهد الانتداب الى ان يكون هو موجه الجماهير، بدءاً بالحركات الطلابية، الى الحركات النقابية العمالية، الى سواها... لا نقول هذا تقليلاً من اهمية الجبل اللبناني وما يجري فيه، كعامل مؤثر في السياسة اللبنانية وتوجهاتها. ولكن نقوله اشادة بنوع من الزعامات، كزعامة رياض الصلح وزعامة عبدالحميد كرامي، وزعامة كمال جنبلاط وغيرها، تلك التي بدأت تخاطب الشعب اللبناني ككل من خلال مخاطبتها لذلك المفهوم الحديث الذي اسمه شارع المدن الذي يمثل في العادة اتجاهات الوطن بشكل عام. لقد انقضى الزمن الذي كان فيه بامكان حركة سياسية، انطلاقاً من وزنها في الجبل، ان تحرك لبنان وشعبه ككل. ولعله لا يزال هذا الوطن بحاجة الى ان ينتظر وعياً اكبر لتاريخه، حتى يمكنه رسم الطريق الى المستقبل. كان امين الريحاني هو اول من اطلق على المتن اسم قلب لبنان. وكان كميل شمعون يعتقد ان قلب لبنان هو الشوف، وقد اظهر البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، وعياً اكبر بوزن المناطق عندما قام برحلته الشهيرة الى الشوف، زائراً الزعيم وليد جنبلاط، وكأنه بمجيئه من مركزه في بكركي بكسروان الى الشوف، رسم قاعدة اوسع من تلك التي رسمها امين الريحاني حينما سمى المتن قلب لبنان. ولكن، تبقى الحقيقة الناصعة والكاملة هي في تلك النظرة الاكثر تقدماً التي تقول: ان الخط السياسي الفكري الاقدر على مخاطبة الجميع هو الاشمل والاوسع آفاقاً، والقائم على جاذبية الفكر السياسي الجامع للبنان كله، والمخاطب لشعب لبنان بأجمعه. ولعل الاسماء الاكثر تأثيراً في تاريخ لبنان، كرياض الصلح وعبدالحميد كرامي وكمال جنبلاط، كانت هي الاكثر استيعاباً لما هو لبنان ككل، والاكثر معرفة بكيفية تحريك شعبه نحو حياة اكثر تقدماً وتطوراً. فمنذ ولادة هذه الكلمة التي اسمها العمل الوطني الشمولي المخاطب لبنان ككل وليس منطقة دون اخرى ولا طائفة دون اخرى، لم يعد كافياً مخاطبة الوطن كله من خلال منطقة، بل اصبح التقدم يفرض مخاطبة كل المناطق من خلال الوطن. لقد اصبح التلفزيون كاشفاً للاحجام. فمجرد تحميل قضايا كبرى كقضايا وطن بكامله لمناكب محدودة الحجم بزاروب او حي او رغبة ذاتية عند شخص بالوجاهة، من شأنه ان يدخل الحزن الى قلوب اللبنانيين البررة الذين يؤمنون فعلاً بوطن هام كالوطن اللبناني وبرسالة هذا الوطن في عالمه العربي. ولا بد هنا من تكرار التذكير بتلك الزيارة التاريخية التي قام بها البطريرك صفير الى الشوف في العام 2001، مؤكداً ضرورة التفاف الطوائف جميعاً حول الوطن اللبناني واستقلاله ورسالته. فكأنها كانت لا تحية لوحدة طوائف الجبل في الماضي فحسب، بل تاشيراً على الطريق السليم القويم الذي وحده يمكن ان يجمع لبنان ككل، انطلاقاً من وحدة الجبل، هذه الوحدة التي اصبحت تعرف طريقها الى التحقق منذ زعامة كمال جنبلاط، ذلك الانسان الوطني الانساني المفكر العارف ان ما يقنع الجبلي هو ما يقنع ابن بيروت وابن طرابلس وابن البقاع في الوقت نفسه. فالمنطلق السليم في مخاطبة اي منطقة هو نفسه المنطلق الذي يخاطب كل المناطق. لقد تابع لبنان كل لبنان مجريات ما حدث في الشوف بقلوب معلقة بالحفاظ على البيتين الجنبلاطي والارسلاني، لا تمسكاً فقط بالارث التاريخي الوطني والقومي الذي حملاه، بل ايماناً بالاسس التي يجب ان يقوم عليها لا الشوف فقط، بل لبنان ككل، وهو الارث الوطني العربي الذي يحتاجه لبنان كله، وليس منطقة من مناطقه فحسب. ويذهب الفضل بصورة خاصة الى وليد جنبلاط الذي استوحى، لا تجربته السياسية فحسب، بل تجربة والده الكبير ايضاً واجداده من الارسلانيين الذين كانوا للعروبة وللبنانية الناصعة وللوحدة بين الطوائف، والذين فهموا منذ زمن بعيد ان ما يقنع الدرزي والسني والشيعي من المسلمين، هو نفسه ما يقنع المسيحيين اللبنانيين الذين كانوا وما زالوا متعلقين بعروبتهم تعلقهم بلبنان. ان التجدد الذي احدثه كمال جنبلاط في الفكر السياسي الجبلي واللبناني والعربي جعل من الشوف اكثر فأكثر تمسكاً باللبنانية الكاملة والعروبة الكاملة في الوقت عينه. وكان من حسن حظ تلك البقعة الهامة والتاريخية من ارض لبنان ان زعاماتها كانت قيادات فكرية في الوقت نفسه، ان لم تكن جميعها فكثرتها الساحقة. وقد اثبتت احداث الشوف ان هذه المنطقة عزيزة على قلب كل مناطق لبنان بدون استثناء، وكل طوائفه، ولاسيما تلك الطلائع من ابناء لبنان التي تتطلع الى الغد اللبناني على انه غد واحد، والى الغد العربي ايضاً على انه واحد ايضاً. لقد تابع كل اللبنانيين ما يجري في منطقة الشوف وكأنه يجري في مناطقهم بالذات، فلا بعيد ولا قريب، بل الكل لبناني عربي مؤمن بأن الفكر الوطني والتقدمي السليم الصادر عن مصلحة لبنان ككل والعروبة ككل، والمتوجه الى كل لبناني وعربي، هو الوحيد القادر على ان يبقي الجبل، بل كل لبنان موحدا واعياً محتاطاً ضد كل محاولة لتقسيمه واللعب بمصيره لمصلحة جهات غامضة، والواضح منها انها لا تريد خيراً لا للشوف ولا للبنان ولا للعروبة حيثما كانت. لقد اثبت الجبل اللبناني مناعته ووعيه السياسي والفكري على قضاياه ومصالح شعبه. وصحيح ان لبنان كله في هذه الايام معرّض للمخاطر وللمحاولات المماثلة للمحاولة التي جرت في الجبل ولم توفر بيروت ايضاً، الا ان نجاح بيروت والجبل في دفع الشرور عن الذات، اثبت ان الوعي، لاسيما عند القيادات، هو صمام الامان ضد كل محاولة مقبلة يتعرض لها لبنان، سواء في الجبل او في غيره. وقد صح القول ان كل محاولة لاضعاف منطقة او قيادة وطنية واعية مكتوب لها الفشل بنسبة ما تتحلى به الزعامات والقيادات من رؤيا فكرية وافق سياسي واسع ووعي على ان لبنان كان ولا يزال من الاوطان المهددة والمستهدفة من قوى خارجية وعناصر داخلية. ان الجبل ومدينة بيروت هما الهدفان اللذان كانا دائماً ولايزالان مستهدفين بصورة خاصة، وعلى تكاملهما في الوعي وارادة الصمود يتوقف جزء كبير من مصير لبنان.