تدمير العراق؟ من أين ابدأ؟ بعد التجوال لسبعة اشهر من السنة المنصرمة في العراق ما زلت أجفل حتى من فكرة محاولة وصف ما يجري هناك. لقد شنت الحرب غير الشرعية واحتل العراق لثلاثة أسباب وفقاً لإدارة الرئيس بوش. أولاً: للبحث عن أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر عليها حتى الآن. ثانياً: لوجود علاقة بين نظام صدام حسين والقاعدة اعترف بوش شخصياً بعدم تمكنهم من إثبات ذلك. ثالثاً: السبب المضمن في اسم عملية الغزو-عملية تحرير العراق- تحرير الشعب العراقي. هكذا العراق الآن اصبح بلداً حراً. لقد ترددت على بغداد المحررة والطوق المحيط بها خلال الشهور الاثني عشر الماضية بما في ذلك مدينة الفلوجة خلال الحصار الذي خضعت له المدينة في أبريل الماضي وتعرضت لطلقات تحذيرية مرت من فوق رأسي أكثر من مرة من جنود الاحتلال. وسافرت في الجنوب والشمال وبصورة مكثفة في وسط العراق. ما شاهدته خلال الأشهر الأولى من عام 2004 حينما كانت حرية الحركة متاحة للصحفي الأجنبي جعلني أتذوق طعم الرعب وتكوين فكرة عن القادم في بقية العام (وبلا شك القادم في عام 2005 ). بالنسبة للعراقيين الغزو والاحتلال الأمريكي قضية تحرير من: الحقوق المدنية (تذكروا سوء المعاملة التي حدثت وما تزال يومياً في أبو غريب وفي أماكن أخرى من العراق. تحرير من البنية التحتية ( تذكروا انقطاع الكهرباء وطوابير الوقود الممتدة لكيلومترات وطفح المجاري في الشوارع)، التحرير من العيش في مدينة بأكملها(تذكروا الفلوجة التي دكتها القاذفات والآلة العسكرية الأمريكية وسوتها بالأرض). ويعيش العراقيون الآن في حالة من اليأس والقنوط ويتجرعون مرارة العلقم من وعود إدارة بوش التي لم تنفذ. كل عراقي محرر عرفته منذ أيامي الأولى في العراق فقد أحد أفراد عائلته أو صديقا له إما على أيدي الجنود الأمريكيين أو في الحرب والاحتلال. ويشمل ذلك حقائق الحياة اليومية من عدم توفر المال لشراء الطعام أو الوقود والبطالة الجماعية وارتفاع أسعار الكهرباء وغيرها من أعمال العنف والرعب. الوعود غير المنفذة لاصلاح البنيات التحتية والمدن المدمرة واضحة للعيان منذ الشهور الأولى من عام 2004 .المحزن ان الدمار الذي شاهدته في ذلك الوقت ازداد سوءا منذ ذلك الوقت. الحياة المرعبة التي عاشها العراقيون العام الماضي ما هي إلا مقدمة لما هو قادم تحت الاحتلال الأمريكي. العلامات التحذيرية واضحة في البنيات التحتية المدمرة والتعذيب والمقاومة الشرسة. حتى في الأشهر الأولى من العام الماضي الطبيعة الحقيقية للتحرير الذي أتينا به للعراق لم تكن أخبارها بالشيء الجديد على العراقيين. فقبل وقت طويل من قرار وسائل الإعلام الأمريكية بان الوقت قد حان للحديث عن الجرائم المرعبة في سجن أبو غريب كان معظم العراقيين يعرفون بان«محرري» بلادهم يقومون بتعذيب وإذلال بني جلدتهم. في ديسمبر 2003 على سبيل المثال قال لي رجل في بغداد كان يتحدث عن فظائع أبو غريب لماذا يفعلون هذا؟ حتى صدام حسين نفسه لم يفعل ذلك. هذا السلوك مشين. انهم لم يأتوا لتحرير العراق. وفي ذلك الوقت أخذت النكات تروج عن أبو غريب. وفي مقابلة لي مع أحد السجناء المفرج عنهم من أبو غريب قال لي وهو يغالب نفسه من الضحك «لقد أوصل الأمريكيون الكهرباء الى (...) قبل أن يوصلوها إلى منزلي». وقصة صادق الزومان مثال صارخ لما شاهدته في العراق فقد اخذ الرجل من منزله في كركوك في يوليو 2003 وتم ايداعه في معسكر احتجاز عسكري قرب تكريت قبل ان ينقل وهو في حالة غيبوبة إلى مستشفى صلاح الدين العام بواسطة الجنود الأمريكيين بعد شهر من اعتقاله. وفي الوقت الذي يوضح فيه التقرير الطبي المرفق معه والموقع من قبل الليفتنانت كولونيل مايكل هودجز بان الزومان تعرض لغيبوبة نتيجة لاصابته بنوبة قلبية من جراء الإجهاد الحراري إلا انه غفل عن ذكر آثار الضرب على رأسه أو آثار الصدمات الكهربائية على أعضائه التناسلية وباطن قدميه أو كدمات السياط التي غطت سائر جسده. قمت بزيارة زوجته هاشمية وبناته الثماني في منزلهم الخاوي على عروشه في بغداد بعد ان قاموا ببيع كل مقتنياتهم في السوق السوداء من اجل تدبير معيشتهم اليومية. ورأيت الزومان يحدق في السقف ببلاهة بينما صوت المولد الكهربائي الصغير الاسود في الخارج يكاد يصم الآذان ولا تستمر خدماته لأكثر من ست ساعات في اليوم. في مايو 2004 عندما عدت لزيارة أسرة الزومان كانت محكمة عسكرية قد فرغت من إصدار أحكام مخففة بالسجن على جنود شاركوا في تعذيب العراقيين في سجن أبو غريب. غير أن العراقيين لم يأبهوا لذلك. في الصيف الماضي أجريت مقابلة مع امرأة في الخامسة والخمسين من العمر كانت تعمل مدرسة للغة الإنجليزية تعرضت للاعتقال لاربعة اشهر في العديد من السجون في سامراء وتكريت وبغداد وبالطبع في أبو غريب. وقالت لي بأنهم لم يدعوها تنام ليلة واحدة طوال هذه الأشهر الأربعة وأنها كانت تخضع للتحقيق عدة مرات في اليوم ولم يقدم لها ما يكفيها من طعام أو ماء او السماح لها بالاتصال بمحام او بعائلتها. باختصار تعرضت لسوء معاملة لفظية وبدنية. ولكنها أكدت لي بان كل ذلك لم يكن الجزء السيئ من تجربتها فقد تعرض زوجها-07 عاماً- للاعتقال وبعد سبعة شهور من الضرب والتعذيب لفظ أنفاسه الأخيرة في السجن العسكري الأمريكي. كل شيء في العراق تعرض للدمار. كل ما فعله الأمريكيون تقديم مزيد من الوعود ولكن على ارض الواقع لا يوجد اثر لجهود إعادة الإعمار. عندما نتحدث عن أساسيات العراق الجديد نجد أن البطالة قد تجاوزت الخمسين بالمائة وإنها آخذة في الازدياد وان افضل المناطق في بغداد لا تزيد ساعات وجود التيار الكهربائي عن ست في اليوم اما الأمن فلا وجود له في أي مكان. الوضع على حافة الكارثة ان لم يكن قد تجاوز الحافة الآن. على سبيل المثال نقص مياه الشرب هو المألوف في جميع مناطق العراق الوسطى والجنوبية. وقد كنت مهتماً في ذاك الوقت بالعمل على إعداد تقرير لتوثيق أعمال إعادة الإعمار الفعلية في قطاع المياه وهو القطاع الذي أوكلت مهمة إعماره لشركة بكتل الأمريكية والتي حصلت على عقد تقدر قيمته ب 680 مليون دولار أمريكي من خلف الأبواب المغلقة في 17 أبريل 2003 والذي تم رفعت قيمته في سبتمبر إلى 1,03 مليار دولار ثم حصلت نفس الشركة على عقد ب 1,8 مليار دولار لتوسعة برنامجها حتى ديسمبر 2005 . وفي تلك الأيام حينما كان السفر بالنسبة للصحفيين الغربيين اسهل مما كان عليه هذه الأيام، توقفت في عدة قرى في مما يطلق عليه الأمريكيون» مثلث الموت» وأنا في طريقي من بغداد إلى الجنوب للوقوف على وضع مياه الشرب في تلك القرى. وبالقرب من الحلة أراني رجل مسن مضخة مياهه العاطلة عن العمل بسبب انقطاع الكهرباء. وقيل لي بان المياه التي تحصل عليها القرية لا تخلو من الأملاح لان شركة بكتل لم تلتزم بتعاقدها في إعادة تأهيل محطة معالجة المياه في الجوار. وفي قرية أخرى لم يعان السكان من ملوحة المياه ولكنهم أصيبوا بحالات إسهال وغثيان وحصى الكلى وتقلصات معوية وحتى بالكوليرا من جراء تلوث مياه الشرب التي توفرها بكثل. وكان ذلك الوضع هو السائد في معظم القرى التي وقفت بها. وفي قرية صغيرة بين الحلة والنجف يحصل سكانها البالغ تعدادهم 1,500 شخص على مياه الشرب من نهر قذر يمر بقرب منازلهم. وقال لي أحد السكان وهو يرفع طفلاً مصاباً بالدوسنتاريا لقد كنا افضل حالنا قبل الغزو فقد كانت مياه الشرب النظيفة متوفرة طوال الأربع والعشرين ساعة والآن أصبحنا نشرب من هذا النهر الآسن. وفي يونيو قمت بزيارة مستشفى الشوادر في مدينة الصدر والذي كان يستقبل نحو 3000 مراجع يومياً اخذ مدير المستشفى الدكتور قاسم النويصري يصف لي معاناتهم تحت الاحتلال ونقص الدواء واضطرارهم للتغاضي عن إجراءات السلامة فيما يتعلق باستخدام المعدات الطبية بدون تعقيم. وشهدت أزمة الوقود المستمرة انتظار الناس ليومين في الطابور لتعبئة خزانتهم عند محطات الوقود وتوفر المدينة احتياجاتها من المولدات في غالب الأوقات كما أن مناطق مثل مدينة الصدر ببغداد لا تنعم بالكهرباء لأكثر من أربع ساعات في اليوم. وقد أصبحت الأساليب العنيفة لقوات الاحتلال من المسائل المألوفة في حياة العراقيين. وقد قمت بمقابلة عدد من الأشخاص الذين كانوا ينامون في كامل ملابسهم لانهم اعتادوا على مداهمات الفجر. وفي العديد من الأوقات عندما تتعرض الدوريات العسكرية لهجمات المقاومين في مدن العراق يقوم الجنود بفتح نيران أسلحتهم بعشوائية على كل جسم يتحرك. والأكثر شيوعاً من ذلك الخسائر الثقيلة وسط المدنيين من جراء الهجمات الجوية التي تشنها طائرات الاحتلال مما أسفر عن مصرع اكثر من 100,000 عراقي في ظرف اقل من عامين من الاحتلال. ثم كانت هنالك الفلوجة التي دكت الطائرات والمدفعية ثلاثة أرباعها وسوتها بالأرض. وتقدم الصور الفوتوغرافية الملتقطة للمدينة الدليل على استخدام القوات الأمريكية لأسلحة كيمائية وفسفورية وكذلك لقنابل عنقودية. ووزع على العدد القليل من سكان المدينة الذين سمح لهم بالعودة إليها في الأسبوع الأخير من عام 2004 منشورات تحذرهم من تناول أي أطعمة عثروا عليها داخل المدينة أو شرب المياه الموجودة. وحكى لي الأطباء الذين بقوا في مستشفى الفلوجة العام عن الفظائع التي ارتكبت خلال الشهر الأول من حصار المدينة. ويقدر طبيب جراحة العظام عبد الجبار عدد القتلى في الفلوجة في شهر ابريل الماضي بنحو 700 شخص. وعندما تهب الرياح من حي الجولان ما تزال تحمل رائحة الجثث المتفسخة مما يؤكد رواية دكتور عبد الجبار والذي يقول بان الإصابات التي قام بعلاجها دلت على استخدام الأمريكيين للقنابل العنقودية. وقال الدكتور راشد وهو جراح عظام هو الآخر بان ما لا يقل عن 60 بالمائة من القتلى في الفلوجة من النساء والأطفال ولقد قمت بنفسي بزيارة مقبرة الشهداء وتحققت من قوله من حجم القبور التي ضمت القتلى من الأطفال حيث كان عددها كبيراً. وقد أكد لي الدكتور راشد رؤيته بعينيه للقنابل العنقودية وقام بعلاج عدد من المصابين بها. وفي معرض حديثه عن الأزمة الطبية التي تعين على مستشفى الفلوجة العام التعامل معها قال الدكتور راشد بان العسكريين الأمريكيين رفضوا خلال العشرة الأيام الأولى من غزو الفلوجة الأخير السماح بإخلاء المصابين إلى بغداد ولم يكتفوا بذلك بل رفضوا تحويل المرضى من مكان إلى آخر بالمدينة. وفي أثناء طريقي إلى سيارتنا استعداداً لمغادرة الفلوجة في إبريل الماضي جذبني رجل من يدي وصاح» الأمريكيون رعاة بقر! هذا تاريخهم! انظر لما فعلوه بالهنود والفيتناميين والأفغان! والآن جاء الدور على العراق! هذا الوضع لا يثير دهشتنا». كل ذلك حدث قبل ان يبدأ الحصار الكامل للمدينة في نوفمبر. في أعقاب تدمير الفلوجة امتد القتال لأماكن أخرى في العراق وزادت حدته. العائلات الآن أخذت تغادر الموصل ثالث اكبر مدن العراق بسبب التحذير من الحملة الجوية القادمة ضد المقاومين. وتشهد المدينة الآن انفجار سيارة مفخخة واحدة كل يوم. واندلعت الاشتباكات الدموية في مدن الرمادي وبعقوبة والبلد. ورغم التعتيم الإعلامي على أحداث الفلوجة الأخيرة انتشرت القصص عن نهش الكلاب الضالة لجثث المقاومين وعن تدمير المساجد في سائر أنحاء العراق مثل انتشار النار في الهشيم مما عزز من شعور العراقيين في أن المحررين قد تحولوا إلى محتلين مستعمرين لبلادهم وبالتالي عزز من موقف المقاومة. *ظاهر جميل صحفي مستقل من انكوراج بالسكا، قضى سبعة اشهر من العام الماضي في تغطية أحداث العراق من الداخل. وقد نشرت مقالته في الصنداي هيرالد وخدمة انتر برس ومجلة نيشن وعلى موقع ستاندارد انترنت نيوز على الشبكة العنبكوتية والتي عمل مراسلاً لها في العراق * (آشيا تايمز)