وصف عدد من المثقفين والمثقفات رحيل عبقري الرواية العربية، بالفاجعة، وبالصدمة الفادحة، مؤكدين ترجل فارس في المشهد الثقافي العربي، ورحيل رمز من رموز الرواية العربية.. مؤكدين بأن صاحب موسم الهجرة إلى الشمال سيظل مهاجرا في ذاكرة ثقافتنا العربية... الدكتورة كوثر القاضي وصفت رحيل الطيب صالح عن المشهد الثقافي العربي بقولها: غادرنا يوم أمس الطيب صالح أحد الرواد الكبار للرواية في عالمنا العربي.. المبدع العربي مبدع موسم الهجرة إلى الشمال تلك الأسطورة الروائية الفريدة التي ارتبطت باسمه. أما عن رحيل عملاق الرواية السودانية وأحد أبرز الروائيين العرب فقد وصف رحيله الكوثر في ظل الوضع الروائي العربي الذي يسود مختلف أقطارنا العربية فقالت: لقد رحل الطيب صالح في مرحلة تعيش فيها الرواية العربية مرحلة تتميز بغزارة الكم، وتعاني في الوقت ذاته من الفقر الشديد في فنياتها وفي عمق ونضج تجربتها الإبداعية. وختمت د.كوثر حديثها في وصف ترجل الطيب صالح قائلة: لقد توراى الطيب صالح في زمن لم يعد فيه للكبار مكان. أما الروائي يوسف المحيميد فقد وصف رحيل الطيب صالح قائلا: لم نكن نستيقظ من صدمة فقدان رمز الشعر العربي الحديث الشاعر الكبير محمود درويش، قبل أشهر قليلة.. إلا وقد فاجأنا رحيل أحد أبرز كتاب الرواية العربية الحديثة الطيب صالح، فكما تعلمنا جماليات اللغة ومفرداتتها الشعرية على يدي محمود درويش، كنا التقطنا جماليات خيوط السرد من رائعته(موسم الهجرة إلى الشمال)بالإضافة إلى أعماله الأدبية مثل عرس الزين، دومة ود حامد، وغيرها من أعماله الإبداعية المميزة الأخيرة. ومضى المحيميد بمشاعر الأسى في حديثه فقال: رغم أن الطيب صالح توقف عن كتابة الرواية بشهامة ونبل.. حيث كان يردد دائما بأنه ليس لديه من شيء جديد ليكتبه.. إلا أن فقدانه كإنسان وكرمز روائي تحمل أن يباغتنا ذات يوم برواية جديدة بعد أن فقدناه نهائيا. ومضى يوسف واصفا عزاء الساحة العربية في فقدها للطيب صالح فقال: عزاؤنا بأن رحيله يقابله حضور لافت في الرواية العربية، على المستوى العالمي، وبروز أسماء شابة جديدة قادرة على مواصلة ترسيخ الفن الروائي العربي، سواء كانت هذه الأسماء من السودان الشقيق، أو من بلدان العالم العربي، خاصة مع حضور رواية الأطراف في الخليج العربي، والمغرب العربي الأقصى. أما عن مقولة الطيب صالح التي طالما رددها لقرائه والتي يرى بأن لا جديد لديه ليكتبه للقارئ.. فقد علق المحيميد قائلا: لعل هذه التصريحات التي تدور في محيط هذه المقولة التي كان الطيب صالح يرددها بين الحين والآخر، فقد كان يشير بشكل أكبر وأكثر تحديداً إلى الفن الروائي. فكما تعرف بأنه في السنوات الأخيرة صدرت له عدد من الإصدارات عن دار رياض الريس والتي كانت تضم مقالات في الأدب والسياسة والمجتمع. وأضاف يوسف قائلا: رغم أن مجرد صدور رواية تحت أي مستوى فني تتضمن اسم الطيب صالح، كانت كفيلة بالحضور الكبير لها.. فقط لأنها تحمل اسم الطيب صالح.. ولكنه ونتيجة لعدم رضاه عما تختزنه ذاكرته من عوالم وشخوص آثر أن يصمت (شهر زاده الخاص). واختتم المحيميد حديثه قائلا: لا زلت أتذكر ملامح الخيبة على وجهه وهو يقف كرئيس لجنة اختيار جائزة للرواية العربي في ملتقى الرواية العربية الثالث بالقاهرة، حينما ألقى الروائي صنع اله إبراهيم خطابه الشهير، والذي رفض بموجبه الجائزة الممنوحة له من وزارة الثقافة المصرية...إذ كان يشعر الطيب صالح كرئيس للجنة الجائزة بالخيبة، والشعور بالحرج أمام كبار المثقفين والمبدعين المصريين والعرب عامة.. وكأنما قبوله للجائزة في دورتها اللاحقة كان من موقف يشبه العزاء لنفسه، رغم أنه يستحق أكثر من جائزة في الرواية العربية. أما رئيسة اللجنة النسائية بالنادي الأدبي الثقافي بالطائف، الأستاذة منى المالكي، فقد تحدثت عن هجرة الطيب صالح إلى السماء فقالت: تلقفنا رائعته تتنقل بين الأيدي المرتجفة خوفا من المراقبة أن تقبض علينا متلبسات بالهجرة معه إلى شماله الملتهب المتناقض داخل نفس بطله(مصطفى سعيد) , هذا ما حدث معي عند بداية رحلتي الماتعة مع المهاجر الطيب صالح يرحمه الله في رائعته (موسم الهجرة إلى الشمال) كان ذلك في المرحلة الثانوية , كنا ندلف إلى عوالمه المغرقة في المحلية والواقعية ولكنها كانت رحلة ممتعة للوصول إلى فك شفرة تلك المفردات , وأيقنت صدق المقولة (الوصول للعالمية طريقه الإغراق في المحلية). ومضت منى في وصف مشاعر فاجعة رحيل عبقري الرواية العربية فقالت: فجعت بالخبر الحزين عن رحيل عملاق من عمالقة عالمنا الروائي الذين أثبتوا قدرة العربي على استنبات فن كالرواية لدى أمة شاعرة تشكل الموسيقى واللغة المتفجرة دهشة ومفاجأة أحد روافدها الحياتية الرومانسية.. واختتمت المالكي وصفها لإنسانية الراحل صاحب الإبداعات الروائية، والمقالات الاجتماعية، وصاحب الحس الإنساني الذي يتدفق مجتمعا يبحث عن غد في شرفات الحياة فقالت: الطيب صالح كان طيبا وصالحا مع وطنه وأمته وأهداهما خلودا رسمه بأنامله الطاهرة روايات مميزة , ف (يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية). أما الناقد الدكتور حسين المناصرة فقد وصف رحيل الطيب صالح قائلا: رحل مبدع أفضل رواية عربية وأشهرها في القرن العشرين، رحل صانع حوار الحضارات أو تصادمها في رواية قد حظيت بكل منجز نقدي، توقف كثيراً على مشارف لغتها؛ ليدقق، ويحلل، ويستشرف، ويؤوّل؛ لتبقى الرواية نصاً مفتوحاً عصياً على أي قراءة نقدية تدعي أنها نهائية!! رحل الطيب صالح - رحمه الله - وقد ترك لنا من ذاته علامة فارقة ومشرقة في فضاء الإبداع السردي، في فضاء الرواية العربية/«ديوان العرب في القرن العشرين»، وما زالت!! رحل ليقول لنا : أنا لم ارحل، ولن أرحل؛ لأنني تركت فيكم قيمة الحياة الحقيقية ماثلة في قيمة الإبداع، وهل للحياة جمال غير جمال الإبداع، عندما يكون خالداً إلى أن يشاء الله!! ومضى د.المناصرة قائلا: ستبقى رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» نجمة مضيئة في فضاء تاريخ الرواية العربية، نجمة تستحضر دوماً معها كثيراً من الصفات الحميمة التي تكشف عن تلك النفس الإنسانية العميقة الماثلة في شخصية الطيب صالح نفسه، فتقول: إنه ذو نفس إنسانية عميقة؛ لأنه قد آمن - خلال مسيرته الثقافية والإبداعية - بأن إنسانية العالم أكبر من إقليم السودان، أو قارة أفريقيا، أو العالم العربي؛ فكان سودانياً، وعربياً، وأفريقياً، وشرقياً، وعالمياً، وإنسانياً... تجسد هذا كله في عبقريته الإبداعية التي أنتجت «موسم الهجرة إلى الشمال»، هذه الرواية التي التهمت مبدعها، وأعماله الأخرى؛ فلم يعد يذكر الطيب صالح إلا بهذه الرواية الأقرب إلى الأسطورة أو العنقاء التي تتجدد دوما في كل قراءة نقدية واعية، وفي كل امتداد زمني نحو المستقبل!! وعن هذا الرحيل لعبقري الهجرة إلى الشمال يقول د.حسين: ما أن يقولوا للطيب صالح، يوم أن كان حياً يرزق : روايتك تختصر العالم كله، أو هي عن الشرق كله، أو عن العرب، أو عن الإسلام، أو عن أفريقيا، أو عن العالم الثالث، أو عن فلسطين، أو، أو، أو... حتى يؤكد لك أنها عن كل ما يقولون، ولو جاءه أحد ما، وقال له : هذه الرواية عن امرئ القيس، أو المتنبي، لما تردد في أن يؤكد صحة الاستنتاج؛ فهو يدرك أن الرواية - في المحصلة - منتج المتلقي؛ وأن السارد ليس له إلا ذلك الاسم المطبوع على غلافها؛ لذلك كانت هذه الرواية، وستبقى مثاراً لزوابع من الرؤيات والجماليات، وأنك لو قرأتها للمرة العاشرة ستشعر أنك تقرؤها للمرة الأولى، وبكل تأكيد ستكتشف أن هذه الغابة السردية، تفضي لك بأسرار جديدة مع كل قراءة جديدة، حتى لو وصلت إلى القراءة المئة!! ومضى د.المناصرة في حديثه قائلا: لو كانت جائزة نوبل محايدة وموضوعية في مجال الآداب تحديداً، لمنحت جائزتها هذه للطيب صالح، والكل يعرف أنه رشح لهذه الجائزة، ولكن عدم موضوعية المشرفين على هذه الجائزة من ناحية الأدب، حالت دون حصوله عليها؛ علماً بأنها منحت لروايات أقل شأناً من رواية (موسم الهجرة على الشمال) التي دخلت في عام 2002، ضمن أفضل مئة رواية إنسانية في العالم. وعن حديث البدايات يقول د.حسين: بدا الروائي الطيب صالح مقلاً في كتابة الرواية، على الرغم من أنه يكتبها منذ نصف قرن، فكتب إضافة إلى (موسم الهجرة إلى الشمال) روايات: عرس الزين، ومريود، ودومة ود حامد، وضوء البيت... ومع هذه القلة في الكم لا النوع، يبدو أنه يستحق لقب (عبقري الرواية العربية) وهي عبقرية موسم الهجرة إلى الشمال. ولكنها أيضاً ستغدو عبقرية حاضرة في رواياته الأخرى؛ فيما لو أعطيت حقها من الدراسة والنقد. ومضى د.حسن واصفا رحيل العبقري فقال: برحيل الطيب صالح، صار بإمكاننا أن نعرف إلى أين ذهب (مصطفى سعيد) بطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) فها هو قد مات بموت الطيب صالح - رحمه الله-. وفي هذا الرحيل تكمن مسألة أن البطل كان يعيش في جلد مبدعه، وأن اختفاء مصطفى سعيد، هو جزء من تخفي السارد، الذي يرمز بالأشياء من حوله، ومن منظور رؤيته، لعالم مليء بالمفارقات، إلى حد أن يصبح هذا العالم مخزوناً في ذات عبقرية متناقضة ومضطربة، تكتب عن المستقبل من منظور رؤيتها للماضي والحاضر، وتفهم طبيعة التناقضات المقبلة من خلال بؤر التناقضات التاريخية؛ لهذا كانت رؤيات الطيب صالح مسكونة بهواجس الناس العاديين، كما هي في الوقت نفسه مسكونة بهواجس المفكرين والمبدعين وأصحاب النظريات الكبرى!! وختم د.المناصرة حديث الفراق ومشاعر الأسى قائلا: رحمك الله أيها الفارس الذي ترجل عن فرس الإبداع، لأنه لم يعد بإمكانك أن تواصل الحياة؛ فالموت قدر، ومغفرة الله واسعة الرحمة، فليرحمك الله، وليحسن إليك، فإنك أبدعت في حياتك، وهذبت الجيل، وصورت الحياة بتناقضاتها المختلفة، وفي النهاية على الإنسان السوي أن يتوازن من ذاته وبنفسه، فيقتل شره، ليجعل حميمية إنسانيته تستوعب العالم من حوله، ومن ثم تؤمن إنسانيته بأن الخير سيبقى ويتجدد كالعنقاء، وأن الشر لن يدوم، حتى فيما لو غولاً مجرماً!!