جئت إلى جريدة "الرياض" وأنا مزدحم بالقول. أكثر من شهر من التوقف. لم انقطع عن الكتابة مدة ست عشرة سنة متواصلة. أخذت إجازة واحدة العام قبل الماضي. على مدى هذه السنوات كتبت عن أشياء كثيرة. ظننت في البداية أن التوقيت كان سيئاً. عدت إلى الكتابة في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل قتل الفلسطينيين. عزائي أن قتل الإسرائيليين للفلسطينيين ليس جديداً. بدأ مع قيام إسرائيل ولن يتوقف إلا مع زوال إسرائيل. التناقض لا يمكن حله بتبادل الأوراق والأنخاب. مشكلة إسرائيل ليست مشكلة سياسية ولا جغرافية ولا ثقافية. إسرائيل حصلت على كل شيء (معاهدات وعهود وتعهدات وضمانات من قوى الأرض) ولكنها لم تستطع حتى الآن أن تكون موجودة. مشكلة إسرائيل تكمن في المستقبل. لا تريد أن يتحرك الزمان إلى هذا المستقبل. كالمريض الذي يعرف ما يجري في داخله. يمد الليل إلى ما لا نهاية حتى لا يسمع صباح الغد نتيجة التحليل والفحوصات. جرثومة الفناء تتآكلها في داخلها. الدولة الوحيدة في العالم التي لا صلة لها بالعالم. اليمن تتداخل مع السعودية في الثقافة والدم والسعودية تتداخل مع الأردن في الثقافة والدم والأردن يتداخل مع سوريا في الثقافة والدم وسوريا تتداخل مع تركيا في الثقافة والدم وتركيا تتداخل مع دول البلقان في الثقافة والدم ودول البلقان تتداخل مع النمسا وهكذا يتداخل العالم حتى يعود التداخل الإنساني ماراً بأفغانستان وإيران والعراق والسعودية واليمن وأفريقيا. إسرائيل هي الدولة الوحيدة المنبتة المقطوعة من العالم. دولة بلا تراث. دولة اخترعتها الأساطير الدينية. حكاية انتزعت من التوراة وركبت في المختبر. أعجب دولة علمانية. يتسابق فيها العلمانيون لكسب أصوات رجال الدين وطلبة المدارس الدينية. أول دولة علمانية لا تسمح بتجنيس سوى أصحاب ديانة واحدة. جنسيتها مفتوحة لجاهل همجي من أثيوبيا ولا يمكن أن يحصل عليها عالم صيني أو إنجليزي مهما أظهر لها من ولاء. المحرك الداخلي دين متعفن والكابينة والشكل الخارجي علماني حديث. حتى الذين يطبلون لإسرائيل يعرفون أنهم أغيار. لا تحمل لهم أي شكل من أشكال التعالق الإنساني. لو بدأت الكتابة في جريدة الرياض بالكتابة عن قضية غزة هل سأقدم شيئاً. ما الذي يمكن أن يقدمه الكاتب لبشر يقتلون وما هي حدود مسؤوليته؟ لا أقصد بالكاتب مقرر الأحداث اليومية الذي لا يخجل عندما يطلب منه أن يسكت أو يدين رأياً سبق له تمجيده ولا مانع لديه من إدانة الضحية إذا لزم الأمر. ما الذي يمكن أن يقدمه الكاتب الحقيقي في وقت القتل. الطابع الإنساني لقضية الفلسطيني يغمرنا من كل جانب فيفقدنا الإحساس بوجوده كما هي حال الهواء. قوة حضوره في الضمير تخدعنا فننسى إمكانية تلوثه كما نسينا إمكانية تلوث الهواء. مسؤولية المثقف والكاتب على وجه الخصوص تنقية الطابع الإنساني للقضية الفلسطينية من التلوث. منع الاعتداء عليها. يبدأ من إدانة أي تمجيد لإسرائيل تحت أي ذريعة. (أنها متطورة أنها ديمقراطية) إلخ هذا الكلام ينطوي على إهانة كاملة لإنسانية الإنسان. ذكاء القاتل لا يمجده إلا المغرر به أو المتواطئ معه.