رأيته مزهواً بنفسه كطاووس.. يدخن من غليونه بطريقة فيها كثير من المغالاة والتباهي.. فهو يحشر الغليون بالتبغ ثم يشعله بالقداحة ثم يمتص منه نفساً أو نفسين ثم يتركه حتى يخمد ليعود في الاشتعال والشفط. وفي هذه الأثناء تراه يقلب رأسه ويحدق بعينيه في استخفاف في وجوه الآخرين. قال لي صديقي هذا أحد المثقفين ال ...! فأقسمت في نفسي أن هذا من أفقر خلق الله ثقافة وأدباً وأن هذا الكحيان لا يمكن أن يختزن في رأسه شيئاً من الأدب والثقافة لأن الأدب يصقل صاحبه وينظفه من عوالق ورواسب التفاهة، الأدب الحقيقي يجعل من صاحبه انساناً ذواقاً مرهفاً مشبعاً بالقيم والفضائل الإنسانية، ولا يمكن أن يتردى بصاحبه فيحوله إلى كتلة من الرجس والتفاهة.. الأدب المكين يخلق حصانة لصاحبه فيمنعه من التردي والبهلوانية والتعالي على الآخرين.. لأن المعرفة والثقافة والأدب تملأ صاحبها بالثقة واليقين، والايمان بالدور الذي يجب أن يلعبه الإنسان في الوجود.. لأن عقل المثقف والأديب هو خزانة ضخمة من التجارب الإنسانية، وكلما كانت التجربة الإنسانية واسعة..كان المرء مكتشفاً لنفسه عارفاً لها حق المعرفة، ومن ثم فإنه لا يقبل بأن يخرجها من إطارها وقالبها الإنساني، إلى حظيرة البهائم والدواب.. لذا فإن المثقف الحق والأديب الحق هو أقرب الناس إلى الناس.. بل هو أقرب الناس إلى الحياة وفهمها فهماً فلسفياً عميقاً. فالأديب لابد أن يكون فيلسوفاً بشكل ما. أما ذلك المنفوش الذي رأيته، فهو إنسان مفرغ من كل شيء ليس من الأدب فحسب بل من نوازع الخير والايمان بالوعي الإنساني.. ذلك وأمثاله كثير ممن تضعى عليهم تلك الألقاب والأوصاف في أوساط الصحافة والأدب، وشاع ذكرهم بسبب الترويج والتهريج إلا أنهم في الحقيقة بهرج وزبد، وهم يلجأون إلى هذا السلوك بسبب ذلك الخلل الفادح في دواخلهم.. فهم يعلمون بأنهم مفرغون.. بل هم يرون أنفسهم في النهاية مفرغين مجوفين.. أطلقت عليهم صفات وسمات لا يستحقونها، ويخشون من الانكشاف والافتضاح. فأخذوا يوارون سوآتهم وعوراتهم الثقافية بذلك السلوك، وبهذا المظهر الأدبي الأروستقراطي المتزمت الزائف، والمشكلة أنهم قد ينجحون بواسطة ذبذبات الشعوذة تلك، في التشويش على عقول السذج والبسطاء حتى من مدعي الأدب والثقافة. تمنيت شيئاً واحداً وهو أن يتم فحص هذا الطاووس فحصاً حقيقياً حيث يوضع متجرداً من ملابس الخيلاء والدروشة ومن غليونه وقداحته ونظارته ونظراته المتعالية، ويخضع لفحص حقيقي أمام الجمهور فيحاور حواراً واضحاً في الشعر والأدب واللغة، والخيال والإبداع من قبل فاحص خابر عليم. لو حدث فإن هذه «الفحوصات» ستظهر بأنه مصاب بفقر الدم الأدبي.. وانه يعاني من تهتك في طبلة أذنه الشعرية، ومن ثم فإنه لن يفرق بين البحر الطويل والبحر الميت، كما أنه لن يفرق لغوياً بين ضحا، وأضحى. أجزم أنه لو خضع لهذا النوع من الفحص المخبري للملم أمتعته وغليونه وولى هارباً من انكشاف عورته الثقافية.