فالانغلاق الفكري والعزلة المعرفية، لا يخلقان بيئة مناسبة لاستيعاب منجزات الحضارة على هذا الصعيد.. لذلك فإننا أحوج ما نكون اليوم إلى إرساء معالم وحقائق العمل المؤسسي في فضائنا الاجتماعي والثقافي ثمة معطيات ومؤشرات عديدة، تدفعنا إلى الاعتقاد بسطحية الأُسس والمعطيات التي يقوم عليها النزوع المؤسسي في الواقع العربي السياسي والمجتمعي. كما أن المتطلبات النظرية والعملية لمثل هذا النزوع، ما زالت في بدايتها بعد لم تتشكل كثقافة آليات عمل مجتمعية، تعلي من شأن النزوع المؤسسي أو تعطيه الأولوية الأخلاقية والعملية. ولا ريب أن فقر المعطيات أو ضعفها في النسيج المجتمعي العربي الداعم للنزوع المؤسسي، أدى إلى غياب حقيقي وعميق للوعي بمتطلبات المؤسسة، وعدم إدراك للعوامل الاجتماعية الضرورية التي تأخذ على عاتقها عملية التبشير بهذا البعد وضرورته للارتقاء الحضاري والاجتماعي بالنسبة إلى واقعنا العربي. فالمَأْسَسة مرتبطة بشكل كبير بقبول الحد الأدنى من تجاوز الأنا أو نكرانها على أمل الوصول إلى صيغة مؤسسية قارة، هي من مجموع التضحيات التي يقدمها أبناء الأمة في سبيل إنجاز العمل المؤسسي في واقعنا ووظائفها. فالإنسان الذي يحب ذاته إلى حد التعصب الأعمى، ولا يفرق أو يوجد مسافة بين ذاته وأفكاره وخياراته الثقافية، فهو لن يتمكن مهما حاول أو حمل من أفكار وتصورات تدعو إلى المأسسة إلى تحقيقها وذلك لأنه يحمل سلوكاً بعيداً كل البُعد عن متطلبات العمل المؤسسي. لأن النواة الأولى لأي عمل مؤسسي في أي اتجاه أو حقل كان هو خروج الإنسان من أناه الضيقة إلى رحاب الأمة عقلا وتاريخاً ومستقبلاً فالأنانية وتضخيم الأنا إلى حد التأليه هو العدو الأول لأي عمل مؤسسي في الأمة. فكلما توسعت دائرة الأنانية في نفوس أبناء الأمة كان واقعها بعيداً كل البُعد عن العمل المؤسسي وبمقدار ضمور هذه الدائرة يكون قرب أبناء الأمة من أخلاقيات وواقع العمل المؤسسي. لأن الأنانية كأخلاق وسلوك هي عبارة عن نزوع يهيمن على الإنسان يجعله يعتقد أنه أفضل وأولى من الآخرين في كل شيء، فينسب الإنجازات والمكاسب إلى نفسه ويحمل الآخرين وزر الأخطاء والتقصيرات، ويحرق ويدمر في سبيل ذلك كل مبادرة أو أفق لعمل مستقبلي ينطلق من غيره. فالشرط الأول لتقوية النزوع المؤسسي في واقع المجتمعات العربية والإسلامية هو العمل على إصلاح نفوس أبناء الأمة بحيث يخرجون من أنانيتهم الضيقة ورؤيتهم وكأنها ذوات مطلقة. وبدون هذا الخروج من الأنانية ستبقى مجتمعاتنا العربية دون العمل المؤسسي، لأن الأنانية بمعناها الواسع هي أحد كوابح النزوع المؤسسي وهي التي تقضي على كل مبادرة أو تجربة في هذا السبيل، وفي هذا الإطار لا ينفع التشاكي والتباكي وإنما نحتاج إلى رؤية حافزة ووعي عميق وإرادة مستديمة ومطامح جديدة تتجه إلى الإبداع والخروج من دائرة التقليد الأبله. لأن الحالة المؤسسية لا تتوفر صدفة في المجتمعات الإنسانية وإنما هي نتاج متواصل من التطور الإنساني فهي مرحلة تبلغها المجتمعات عبر عمرها المديد، الذي يتجه إلى غرس القيم الضرورية لهذه الحالة والتدرب على مقتضياتها وتنشئة الأجيال على أخلاقها ومتطلباتها ومن خلال تراكم هذه الأنشطة وتعاقب هذه القيم وأخلاقها، تكون الحالة المؤسسية ثمرة طبيعية ومنبثقة من خصائص التطور الذي تمر به المجتمعات العربية والإسلامية، وإن سيادة «أمية القيم» تجعلنا كمجتمعات وشعوب بعيدين بمسافة طويلة عن الحالة المأسسة التي تشهدها المجتمعات المتقدمة والحضارة الحديثة. ولا بد من التذكير في هذا الصدد أن المؤسسة ليست نموذجاً واحداً، وإنما هي نماذج متعددة ومتنوعة وتأتي من روافد مختلفة لذلك فإن عملية الاستنساخ الشكلي لا تنفع وإنما الذي ينفع هو التعرف على القيم الأصيلة والمبادئ الأساسية التي أنتجت هذه الحالات المؤسسية لدى الشعوب والحضارات الإنسانية، وبهذا تتوفر لدينا رؤية نقدية ضرورية للنظر إلى تجارب الأمم والشعوب الأخرى، دون أن تمنعنا هذه الرؤية النقدية من امتصاص خبرات الآخرين والتعرف على جوهر تجاربهم الإنسانية، فالرؤية النقدية في هذا الإطار ينبغي أن تعمل في اتجاهين أساسيين: اتجاه التجربة التاريخية العربية والإسلامية وتمحيصها للتعرف على مكامن القوى أو الحالات التي تشكل قاعدة معرفية وتاريخية للحالة المؤسسية في التجربة العربية والإسلامية. واتجاه قراءة التجربة المعاصرة واكتشاف مسيرة التطور، وطبيعة نشوء وتكامل العمل المؤسسي فيها ومن منطلق أن الحالة المؤسسية في الأمم هي نتاج تطورها الإنساني الشامل: لا بد من التأكيد على النقاط التالية: 1) ضرورة غرس وإشاعة الثقافة المؤسسية في الأمة حيث ان هذه الحالة ليست حالة شكلية وإنما هي تتشكل وتكتمل من جراء الجهود الإنسانية المتواصلة التي يبذلها أبناء الأمة في هذا الاتجاه، ومن المؤكد أن غرس الثقافة المؤسسية التي تؤكد على قيم المأسسة وتعلي من شأن التعاون والمبادرات الجمعية هي أحد الأركان الأساسية لتقوية النزوع المؤسسي في الأمة ومن الضروري أن تشارك جميع المؤسسات كالجامعات والمعاهد العلمية والبحثية والمنابر الإعلامية في هذا الإطار، حتى تكون الحالة المؤسسية في الأمة عميقة في جذورها ومنسجمة مع البنيان الثقافي للأمة فلا حالة مؤسسية عميقة في الأمة بدون قيم وثقافة تدخل إلى كل مرافق ومجالات الأمة، وتصبح جزءاً أساسياً للتكوين الثقافي والقيمي للأمة وبدون غرس وإشاعة هذه الثقافة المؤسسية ستصبح المأسسة أملاً بعيداً المنال ومطمحاً إنسانياً بالإرادة وعملاً يتجه إلى إنجازه في الواقع الخارجي لذلك لا بد من العناية بالمسألة الثقافية ودورها في إنضاج الفعل المؤسسي في الأمة بمعنى من الضروري إبراز المضمون الثقافي العربي والإسلامي الذي يدفع في هذا الاتجاه ويوفر مجموعة من القيم والأخلاقيات الضرورية لتقوية هذا النزوع في الأمة وجعلها من أساس مجالاتها وحقولها المختلفة. 2) إن القوى الاجتماعية والحضارية في الأمة مهما صغر حجمها أو تواضع دورها، فهي في حاجة إلى أن تغرس في تكوينها وبنيانها الداخلي الثقافة المؤسسية وتعمل في إدارتها وأنشطتها على تثبيت هذه الحالة بحيث تصبح هذه القوى نموذجاً حضارياً للعمل المؤسسي، فتبدع ثقافة وتجربة جديدة في الأمة وتصبح رافداً من روافد تقوية النزوع المؤسسي في الأمة. 3) ضرورة حضور العقل والعقلانية لأنها أساس القدرة الذاتية على امتصاص خبرات الآخرين وتجاربهم المتعددة وبدونها سيبقى يلوك الشعارات ويرفع اليافطات دون أن يتعرف بعمق على أُسس التطور والتقدم الذي تحقق في المجتمعات والأمم الأخرى. والعقلانية المطلوبة هي حركة ذات وجهين: معرفة ووعي وتجاوز من جهة ومسؤولية حضارية وإبداع مستديم لتحقيق المنجز المأمول من جهة أخرى. فالمأسسة بحاجة الى أن تنتظم علاقاتنا الاجتماعية على أُسس العقلانية التي تجعل الإنسان المناسب في المكان المناسب.. وبروز ظواهر لا عقلانية في العلاقات الإنسانية، هو الذي يحول دون بناء الممارسة المؤسسية في واقعنا الاجتماعي والثقافي والسياسي.. فالبُعد المؤسسي في الأمة، بحاجة إلى شروط ثقافية واجتماعية وسياسية، وذلك حتى نتمكن من بناء وقائعنا المختلفة على أُسس العمل المؤسسي. 4) ضرورة الانفتاح على المكاسب الإنسانية والمنجزات الحضارية، التي تمكنت من إنجاز الكثير على الصعيد المؤسسي.. إننا بحاجة الى أن ننفتح على كل المكاسب الحضارية والمنجزات العلمية، وذلك لأن هذا الانفتاح الواعي، هو أحد الروافد الأساسية لتطوير البُعد المؤسسي في واقعنا الخاص والعام.. فالأمم المتقدمة استطاعت أن تحقق قفزات نوعية وكبرى على صعيد بناء المؤسسات في مختلف دوائر ومستويات حياتهم.. ولا يمكننا اليوم من تطوير واقعنا على هذا الصعيد، إلا بالانفتاح والتواصل مع تلك المنجزات الحضارية والعمل على استيعابها وتمثلها، لأنها منجزات إنسانية لا يمكن نكرانها أو التغاضي عنها.. المطلوب هو قراءة هذه التجارب واستيعابها بشكل عميق، والعمل على خلق البيئة الثقافية والاجتماعية المواتية لنقلها وتجسيدها في واقعنا الاجتماعي والثقافي. فالانغلاق الفكري والعزلة المعرفية، لا يخلقان بيئة مناسبة لاستيعاب منجزات الحضارة على هذا الصعيد.. لذلك فإننا أحوج ما نكون اليوم إلى إرساء معالم وحقائق العمل المؤسسي في فضائنا الاجتماعي والثقافي. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتواصل حقيقي مع منجزات الحضارة ومكاسب العصر. وذلك لأن هذا التواصل هو الذي يوفر لأبناء الأمة القدرة العلمية الحقيقية لاستيعاب هذه المنجزات ومعرفة أسرارها وسبل تمثلها في واقعنا الاجتماعي. وجماع القول: إننا اليوم أحوج ما نكون إلى الانتقال في مختلف دوائر ومستويات حياتنا، إلى العمل المؤسسي الذي يوفر لنا الكثير من الإمكانات والفرص. وإن عملية الانتقال المنشودة، بحاجة إلى استعداد نفسي وقيم ثقافية وتقاليد وآداب اجتماعية وإرادة سياسية لتطوير البُعد المؤسسي في مختلف جوانب حياتنا.