لعل الخطوة التي ارتأتها حكومة خادم الحرمين الشريفين في تحسين الكادر التعليمي خطوة بناءة ومهمة حيال هذا القطاع الهام الذي طالما بقي منسوبوه في انتظار كل خطوة تسهم في تحسين أوضاعهم المادية ورفع انتاجيتهم العلمية. غير انه بقدر ما جاءت هذه الخطوة مباركة من الكثير فقد أتت محبطة للآمال لدى الأكثرية من منسوبي التعليم العالي حيث غضت الطرف، للأسف الشديد، عن الهدف الأسمى من رفع مكافآت هذا الكادر وخاصة فيما يتعلق باتجاه المملكة الجديد لتقوية جانب العلوم الإنسانية في الجامعات السعودية بعد أن كان التركيز طيلة العقود الخمسة الماضية محصوراً على العلوم الطبيعية وإضعاف الجانب الإنساني في العلوم في ظل نزعة تقليدية بقيت تحارب الإنسانيات وتركز على العلوم الطبيعية والتكنولوجيا. كذلك فإن التمييز بين أعضاء هيئة التدريس تحت تصنيفات عامة تسمى تخصصات نادرة وغير نادرة لا يخدم ما يدعيه من أهداف، خاصة في وجود الندرة في الفرع الواحد من فروع المعرفة. ولو كان الابداع هو الهدف لأصبح كل تخصص بحد ذاته هدفاً تنموياً يستحق الباحثون فيه الاهتمام فيه والتميز بدلاً من هذا التمييز الذي لا جديد فيه سوى تكريس الأفكار القديمة والنمطية. فلقد عانت العلوم الإنسانية في المملكة من نزعة متشددة مفادها ان انتقال النهضة من الغرب إلى الشرق لا يجب ان يشمل سوى الضروريات المتمثلة في الصناعة ومتعلقاتها. فلا يصدر إلينا من اكاديمياته - حسب هذه النزعة - سوى العلوم الطبيعية بينما لا حاجة للفكر وأصوله المتمثلة في العلوم الإنسانية. ونتج عن هذه النزعة إجحاف في المكافآت بين منسوبي العلوم الطبيعية وغيرهم، حيث يحصل الجامعي في القسم العلمي (الطبيعي) على المكافأة الأعلى مقارنة بزملائه في الإنسانيات مع ان صعوبة التخصص، الافتراضية، تبقى مسألة نسبية ودرجة الصعوبة والسهولة فيها خاضعة لمعايير قد تتجاوز النظرة البسيطة للعلوم الطبيعية على انها دوماً أصعب من سواها. ولو أن تحسين الكادر سيعتمد على معاملات الصعوبة والسهولة جدلاً لكان من الأولى بمكان اعتبار طول مدة الدراسات العليا في العلوم الإنسانية وزيادتها على مثيلتها في العلوم الطبيعية (إذ يبلغ معدل مدة الدراسات العليا في العلوم الإنسانية 8سنوات بينما تتراوح مدة الدراسات العليا في العلوم الطبيعية 6سنوات) وعليه فليس من العدل ان يتخرج طالب الدراسات الإنسانية ليجد نفسه بعد عامين من التأخر عن زميله في الطبيعة أقل راتباً وحوافزاً. هذا التمييز يعاني منه أعضاء التدريس في العلوم الإنسانية بشكل عام، وقد نشأ من سوء فهم في التعامل مع الفكر الإنساني العالمي على أنه فكر مستورد، وشرير أحياناً، وبالتالي ولا يجب أن يفتح له الباب بنفس القدر الذي يفتح له في حالة العلوم الطبيعية. وبعبارة أكثر شيوعاً: لنأخذ من الغرب فقط التكنولوجيا وندع له أفكاره أو نرفضها. هذه النزعة يجب أن تتوقف إذ انها تتجاهل الحاجة السعودية والعربية إلى مزيد من التركيز على الإنسانيات. لقد وقعنا في الفخ حين حصرنا برنامج الابتعاث الحالي على عدة تخصصات علمية وليست الإنسانية منها. وما وضع الكادر الحالي إلا تكريسا لسوء الفهم هذا لدور العلوم الإنسانية في تطوير المجتمعات وبشكل لا يقل عن العلوم الطبيعية إن لم يكن أهم منها. إن هذا التمييز في الكادر بين أعضاء هيئة التدريس ينطوي على احباط بينهم خاصة واننا مقبلون في المملكة على مشروع نهضوي يشمل توسيع الجامعات وزيادة أعداد أعضاء هيئة التدريس ليس بناء على ندرة التخصص بل على حاجة الجامعة في أي تخصص كان. غير ان هذا التمييز قد يحدو بالمبتعثين والاكاديميين إلى التخلي عن الإنسانيات لصالح العلوم الطبيعية مما يفاقم الهوة بينها أكثر فأكثر. فتخصصات كالشريعة والتربية، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والادارة، وغيرها، كلها عماد للنهضة والتنمية المنشودة في وطننا. والزعم بأننا نكتفي ذاتياً في حقل الإنسانيات وأنه لا داعي للنهوض بالكادر التعليمي فيه وتحسين أحوال منسوبيه مادياً زعم في غير محله وسوف يضر بالتنمية القادمة ضرراً بليغاً. إن المناداة بإعادة النظر في وضع الكادر مطلب ملح يهدف إلى اجتذاب أفضل المختصين إلى التخصصات المختلفة سواء كانت علمية أو إنسانية وأن المفاضلة الحقيقية ينبغي ألا تكون في الرواتب والمخصصات بل في كفاءة الأفراد أيا كانت تخصصاتهم. استاذ أصول التربية المشارك @ جامعة الملك سعود - كلية التربية