يزداد "ولع" السودانيين يوماً اثر يوم بكل ما هو غريب ومثير ويستمد هذا "الولع" دوافعه من منظومة ثقافية متنوعة وخصبة بكل ما هو متناقض ومختلف "ومختلف عليه". وتمثل اللغة المتداولة يومياً في الشارع السوداني مؤثراً حساساً لإرتفاع او انخفاض المزاج الجمعي الذي يشكل تبعاً للأحداث السياسية والإقتصادية والاجتماعية مرتكزاً على "تلق" نهم عبر وسائل الإعلام المختلفة وتلك التقليدية التي تعتبر "الونسة السودانية" بكل خصوصياتها المصدر الأول لذلك "التلقي" . والخرطوم العاصمة التي تلتقي عندها ثقافات وانماط بشرية متعددة كما يلتقي عندها النيلان الأزرق والأبيض تمثل شاشة ضخمة يشاهد عليها "سودان" مصغر و"افريقيا" ممتدة وترجمة "عربية" على الشريط. واللافت للنظر في شوارع الخرطوم ذلك "الولع" المتنامي بالأسماء الأجنبية التي تعج بها لافتات المحال التجارية غير ذات الصلة - على الرغم من التنوع الكبير الذي يميز البلاد- بتراث ولغة اهل البلاد. "الرياض" تلقفت الملاحظة وسعت عبر استطلاع محدود انحصر جله بين اشهر شارعين في العاصمة الخرطوم هما "الجمهورية" و"القصر" للوقوف على هذه الظاهرة وسجلت آراء بعض اصحاب المحلات التجارية حول المعايير التي "حكمت" اطلاق تلك الأسماء على محلاتهم. "تواوا" ذات اللفظ الموسيقي والإيحاء الجنبي اطلق على وكالة للسفر والسياحة لكن صاحب الوكالة اكد بأن الاسم ليس اجنبياً كما يبدو، بل سوداني مئة بالمائة واصيل في لغة قبيلة الهدندوة شرقي السودان بل ذهب الى انه يعني في اللغة العربية "الدموع المنهمرة" واطلق على جبل في منطقة القضارف وتحديداً بين مدينتي كسلاوالقضارف حيث تقطن قبائل الشكرية وال "بني عامر" وليس بينهم قبيلة الهدندوة التي ينتسب اليها الاسم، ويضيف صاحب الوكالة ان الجبل المسمى بهذا الاسم لأنه يقع في منطقة تتساقط عليها الأمطار "كالدموع المنهمرة" باستمرار. ويحكي صاحب الوكالة ان "تواوا" تعد مفخرة في تراث اهل تلك المنطقة فهم عندما يقولون "فلان قطع تواوا" يكنون بذلك عن شجاعته فهي منطقة وعرة تكثر فيها الحيوانات المفترسة والغابات كمما يدخلون الكلمة في طعامهم كناية عن النعيم المنهمر فيقولون "عصيدتنا تواوا" ويسرد صاحب الوكالة المتحمس للاسم ان "لجبل تواوا" فضلا على اهل تلك المنطقة فقد حماهم اثناء الحرب العالمية الثانية من أذى الطليان عندما قاموا بضرب مدينة القضارف. ويقتلع صاحب الوكالة نفسه من عبق التاريخ ليوضح اسباب اختياره الاسم "علما" لوكالته ومع اعترافه بأن الاسم غير معروف لغير اهل المنطقة الا انه يستغرب سؤال الكثيرين عنه "مفتكرنه اسم ياباني او صيني او ايطالي" ..مشيراً في ذات السياق الى ان بعض الصينيين الذين سافروا عبر وكالته ذكروا له ان الاسم اقرب الى لغتهم . ولا ينسى صاحب الوكالة الإشارة الى قصة تسفير اليهود "الفلاشا" الى اسرائيل ابان حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري من تلك المنطقة وسمى معسكرهم "تواوا" وقال لقد طلبت تعويضاً لما اصاب اسم وكالتي من تشويه لكنهم لم يعطوني شيئاً. أما (كازابلانكا) فهو اسم ليس غريباً فقد اشتهر عبر المدينة التي تحمل اسم "الدار اليضاء" والفيلم الشهير، لكن غرابته تأتي في اطلاقه على كافتريا على احد شوارع الخرطوم حيث يقول عبد الكريم خميس وهو عامل فيها ان صاحبة المحل تدعى مدام بلانكا وهي سيدة يوغسلافية الأصل سمت المحل باسمها لكنه لا يدري معنى الشق الأول من الاسم.. ويضيف ان هذه الكافتيريا تحمل هذا الاسم منذ عهد بعيد، وظهرت حديثاً العديد من المحلات التي تحمل ذات الاسم الا انهم لا يعيرون اهتماماً لذلك . وهناك (ترزي فاشون).. وهو مزج للعربية والإنجليزية يغيظ علماء اللغة لكنه لا يؤثر على التجاني سالم صاحب المحل الذي يقول ان الاسم يشير الى ان المعرض يبدأ دائماً في اوربا واخترناه لذلك، على الرغم من سخرية الكثيرين الذين لا نسلمهم ملابسهم في المواعيد المحدودة. فيتذمرون قائلين "طالما الاسم انجليزي" يجب ان تكون المواعيد انجليزية. (تيب سنتر) أسم محل لبيع الكاسيت والسي دي، ويرجع سليمان محمد خالد العامل الاسم الى ثقافة انجليزية موروثة منذ الاستعمار، فضلاً عن الاتجاه الحديث نحو الأسماء الإنجليزية لمواكبة العصر ومع تحول المحل من بيع وتسجيل الأشرطة الى مجال آخر الا انه ما زال يحتفظ بالاسم المميز. ومحل اخر يسمى (زونال)، وأطرف ما في الاسم أنه يأتي في الكلمة الإنجليزية "ZONE" بمعنى قطاع وهو فرع لشركة عالمية في الخرطوم، هو -كما يقول جلال الدين سليمان- الموظف بالشركة ان الزبائن يدعوها يازول وبعضهم ينطقها "زولات" مشيرا الى انهم وكلاء للشركة المتخصصة في الأشرطة الإذاعية. ولم تسلم الملكات البريطانيات من اطلاق اسمائهن على احد المعاهد التعليمية بالخرطوم على الرغم من اطلاقه على اضخم واقدم شارع في العاصمة السودانية "القصر" بعد سودنته ويقول وليد عمر استاذ بالمعهد ان اختيار الاسم اريد به دلالته التاريخية والثقافية. لكنه يضيف اسبابا اخرى منها ان يكون سهل التداول وغير مطروق في آن واحد وفيه لطافة وجاذبية، كما أن المعهد شراكة بين عدة أشخاص ومن الصعب تسميته بأحدهم فكان "فيكتوريا" مخرجاً. ويعتقد خبراء في مجال اللغة أن انتشار تلك المسميات من تأثير الاستعمار الإنجليزي التي كانت فترته منضبطة تلاها استقلال جاء "أعرج" ويضيف في هذا الخصوص ان الافندية الذين اتوا بالاستقلال لم يحترموا ناس "الخلاء" في اشارة الى اهل السودان - وكانوا يريدون فقط اخذ مكان الخواجة، على عكس الحكام والمدراء الإنجليز في السودان الذين كانوا متمكنين من اللغة العربية. ويعزو الأمين ابو منقة رئيس شعبة اللغات في معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية التابع لجامعة الخرطوم الامر الى تفضيل اصحاب المحلات الأسماء الغربية والاجنبية للفت الانتباه وجذب الزبائن، وليس بالضرورة ان تكون من اثار الاستعمار الذي خرج قبل أكثر من نصف قرن. ويكتفي مكتب مسجل الأعمال التجارية في السودان بأن يرفض الأسماء المتطابقة او المتشابهة في مجال واحد عند التسجيل ولا يرفض التكرار اذا اختلف المجال، ويختار صاحب المحل الاسم والشرط الوحيد ان يكون ذا علاقة بصفة العمل، كما يقبل المسجل الأسماء الأجنبية ولا يلزم اصحاب العمل بالأسماء العربية.