يشكو الإنسان العربي - منذ أمد ليس بالقصير - من كون الآخر )يتعمد!) خلق صورة نمطية سلبية عنه، هي صورة: الإرهابي الدموي حينا، أو صورة: الهمجي الغرائزي المتوحش، الذي لم يصعد بعد على العتبات الأولى لسلم الحضارة الإنسانية، أو - وهكذا الصورة الظالمة! - لم يدخل بعدُ في الطور الأول من مرحلة التطور الإنساني. فهو - كما تحكي الصورة الظالمة التي صنعها الآخرون - بدائي، غرائزي، مضطرب السلوك، إلى درجة يستحيل معها إخضاع هذا السلوك لأي تفسير منطقي، أو حتى شبه منطقي. ومن ثم؛ يتعذر التنبؤ بما يمكن أن يصدر عن هذا الإنسان؛ إلا في الخطوط الكبرى لملامح الصورة النمطية التي تحكي فوضى العقل، ومن ثم؛ فوضى السلوك. صورة نمطية.. الإنسان العربي يؤكد أنها ظالمة، وأن التزوير فيها تزوير متعمد، يصدر عن مؤامرة على هذا الإنسان العربي النبيل!. الآخرون - بزعمهم - يؤكدون أنها صورة واقعية، يقع عليها الإجماع، ولم تنبع من فراغ، وهؤلاء يعززون واقعية هذه الصورة بإحداثيات الواقع، وشهادة الوقائع؛ فضلا عن شهادات أخرى، يمتاحونها من عمق تاريخنا العربي المجيد. الواقع يؤكد أن هذه الصورة النمطية السلبية عن الإنسان العربي، كُتب لها الذيوع على نطاق واسع، بفعل الوسائل الإعلامية التي يمتلكها الآخر المتآمر على العربي تاريخا وواقعا، خاصة في عصر الصورة التي تقوم بترسيخ الأنماط على نحو جماهيري واسع، وبأساليب وتقنيات مؤثرة في أعماق وعي المتلقي. ولأن صانعي هذه الصورة هم صانعو العولمة، فقد تعولمت الصورة، وأصبح العربي النبيل، يواجه سلبيات هذه الصورة في كل بقعة تطأها قدماه من هذا العالم الفسيح. لم يستسلم الإنسان العربي. بل واجه هذا الظلم الإعلامي المنظم بما يستطيع. صحيح أن هذه المواجهة توجهت إلى الصورة، وصحيح أنها مواجهة صوتية؛ لا فعلية، لكنها - على أي حال - تعكس نوعا من العزم على تغيير هذه الصورة، ولو من خلال البوابة الخطأ. المواجهة توجهت إلى الصورة، وإلى محاولة تغييرها مباشرة، ولم تقف - ولو للحظة! - لتسأل عن حقيقة علاقة هذه الصورة النمطية بالأصل الواقعي.. لقد افترضت - دون أدنى مساءلة بحثية حقيقية - أنها صورة مزورة؛ ما دام أنها سلبية، ولم تتأمل - إلا نادرا، وعلى استحياء وذعر من مواجهة الشوفينية العربوية - في حقيقة براءة الأصل (= الواقع) من هذه الصورة التي يراد تغييرها؛ لتتطابق مع الأصل البريء المفترض. شكوى العربي من هذه الصورة، سلوك طبيعي، وسعيه لتغييرها حق طبيعي، لا ينازعه عليه أحد.. وقد حاول - ولا يزال - الدفاع عن نفسه ضد هذه الصورة، مقدما - في الوقت نفسه - صورة أخرى، صورة تمتلك الكثير من عناصر التحضر والقبول بالمشترك الإنساني العام لكن - وهنا تكمن المأساة - لا تساعده الوقائع المتناثرة على طريقه غير المعبّد. وقائع التاريخ، ووقائع الواقع تقفان في مواجهة صلبة معه بأشد من صلابة الصورة النمطية التي يطمح إلى تغييرها. سلوكيات بني قومه، تشهد كل يوم بعكس الصورة التي يتقدم بها - إعلاميا - إلى عالم يرصد الأفعال قبل أن يرصد الأقوال. نتيجة لذلك، أصبح العربي في مأزق حقيقي.. لقد تأكد له - بعد لأي - أنه ليس في مواجهة صورة إعلامية يمكن مواجهتها بالإعلام المضاد، وإنما هو - قبل ذلك وبعده - في مواجهة صورة واقعية، تحمل من صلادة الواقع وقوة حضوره ما يجعل من تغيير الصورة أمرا مستحيلا. لقد أدرك المناضل الإعلامي العربي أنه كلما تقدم خطوة في مجال النضال الإعلامي؛ لتقديم صورة أفضل، أرجعه الواقع العربي ألف خطوة إلى الوراء. بل أصبح الإعلام العربي - بنزقه المعهود - شريكا في مواجهة المناضل الإعلامي الذي أصبح - بعد كل هذا الإحباط - لا يطمح بأكثر من إدخال تحسينات غير نوعية على تشوهات الصورة التي لم تعد تجدي معها جراحات التجميل. مشكلة هذه الوقائع التي تدعم الصورة النمطية السلبية عنا، أنها لا تأتي من بيئات اجتماعية غير مسؤولة، أو يمكن أن تحسب كذلك. لا تأتي هذه الصور الشوهاء - التي ترسخ صورة العربي البدائي المتوحش الفاقد للحدود الدنيا من الانضباط العقلي - من شرائح اجتماعية مسحوقة بعوامل الفقر والأمية والإهمال فحسب، وإنما تأتي أيضا - وهنا الإشكال والاستشكال - من شرائح حظيت بقدر لا بأس به من عمليات التهذيب العلمي والاجتماعي، أو - على الأقل - هكذا يقال عنها في ديار العروبة والإسلام. يمكن فهم بعض السلوكيات )الهمجية) الخارجة عن مسار التهذيب الإنساني؛ عندما تصدر عن هوامش المتن الاجتماعي العربي، بوصفها تعبيرا عن طبيعة هذه الهوامش التي لها معاناتها الخاصة. بل ويمكن التسامح مع هذه السلوكيات الهمجية، بعد إدراجها في دائرة اللامعقول الاجتماعي لكن، لا يمكن فهمها، ولا التسامح معها؛ عندما تصدر عن المتن الاجتماعي، المتمثل في دوائر النخبة، سواء كانت نخباً فكرية أو سياسية أو اجتماعية؛ لأنها - حينئذٍ - ستكون معبرة عن الوعي الجمءعي للأمة، وليس عن استثناءات هذا الوعي. أزمتنا أن هذه السلوكيات إما تصدر عن بيئات غير مسؤولة عن تصرفاتها، ولكنها تقابل بكثير من التأييد من البيئات المسؤولة - حقيقة أو افتراضا - أو أنها تصدر بالأساس عن بيئات مسؤولة. وهنا تصبح الأزمة أعمق؛ لأنها - حينئذٍ - تصبح أزمة وعي عام، يعكس العقل الجمعي للأمة. أي أن الصورة السلبية النمطية لا تصبح صورة مكذوبة بتعمد، أو حتى مغلوطة بحسن نية، وإنما تصبح صورة طبق الأصل لواقع بائس. للأسف، فإن الصور الواقعية المقدمة من قبل الإنسان العربي، هي الصور السلبية التي يمكن للإعلام العالمي التقاطها، وصناعة الصورة النمطية من خلالها النخب العربية على اختلافها، تحكي وقائع هذه الصورة.. من أعلى الهرم النخبوي إلى أدناه، هناك وقائع نخجل منها؛ لا لمجرد وقوعها فحسب، وإنما - وهذا هو الأهم - لأن الوعي العام متسامح معها، وإذا أدانها؛ فإنما يفعل ذلك بالحدود الدنيا وعلى استحياء، وكأنما هو الذي يقترف الجرم المشهود، وليس صاحب السلوك الهمجي المدان. جميعنا يتذكر ما رصدته وسائل الإعلام قبل سنوات؛ عندما قام نائب الرئيس العراقي: عزت إبراهيم، في مؤتمر الدوحة، بإلقاء اللعنات على الشوارب، والقذف بالشتائم الحيوانية. ودهش العالم لصدور مثل هذه التعبيرات عن نائب رئيس جمهورية، يفترض فيه الالتزام ولو بالقليل من الانضباط، على الأقل تحت أضواء الرقابة الإعلامية العالمية. وتبقى الإشكالية الأهم هنا، أن هذا السلوك الهمجي لم يتعرض للإدانة العربية الصارمة من قبل النخب والجماهير، أي أنها في الوعي العام سلوك مقبول أو شبه مقبول، يتم الاعتذار عنه بشتى الأعذار، التي ليس من بينها إنزاله من المتن الاجتماعي إلى الهامش، حيث دوائر الخبل والجنون. ليس هذا الأمر غريبا أو حديث عهد. ففي اجتماع القمة العربية المنعقدة في عام 1970م قام قائد إحدى الثورات العربية المجيدة! بوضع قدميه على الطاولة المستديرة التي يلتف حولها رؤساء وزعماء العروبة، تعبيرا عن ازدرائه للجميع. ومع أن هذا القائد الذي لا يزال على قمة الهرم لدولة عربية ثورية، معروف بخطرات الجنون التي تعتريه أحيانا، إلا أن هناك - وهذا هو المهم في الموضوع - من يحاول التبرير له بمبرر من هنا أو هناك. وكيف لا؛ وخطب الزعيم العروبوي الكاريكاتوري: عبدالناصر - فضلا عن تعبيراته في مجالسه المغلقة - كانت غير منزهة عن بذيء الشتائم. على هذا، فالجريمة السلوكية، التي صدرت مؤخرا عن الإعلامي العراقي الهمجي، الذي وضع حذاءه مكان لسانه، عندما استخدم حذاءه في التعبير عن موقفه، لم تكن جريمة سلوكية من خارج النسق العام، بل كانت إحدى تجلياته المعبرة عن عمقه. يدل على ذلك؛ أنها جريمة سلوكية لم تحظ بإدانة جماعية من قبل النخب الإعلامية والثقافية والاجتماعية، التي هي المعبر الأرقى عن توجهات الجماهيري العام، أي أنها المعبر عن العقل الواعي للأمة العربية، التي تجأر - ليل نهار - شاكية من الصور النمطية السلبية، التي تصورها كشعوب همجية، بعيدة عن الدخول في مضمار التحضر الإنساني. موجة التبريرات - فضلا عن التأييد المجنون - تحكي واقعا مأساويا للعقل الجمعي العربي. على نحو خفي وخجول؛ يعتذر بعضهم أن هذا السلوك يمكن أن يحدث في أي مكان في العالم، ويمكن أن يصدر عن أي شعب يقع تحت المعاناة. وهذا صحيح. لكن الشعوب الأخرى، وخاصة في العالم المتحضر، تطلب إحالة مرتكب الفعل إلى المصحات العقلية، ومن ثم، تضعه في خانة: المعتوهين، أي أنها تنبذه خارج أنساق المعقول الاجتماعي لأممها. وبهذا، تكون - كأمة - بريئة من خطرات العته والجنون التي قد تعتري بعض أفرادها، بحيث تكون مسؤولية أفراد معتوهين، وليست مسؤولية أمة، وإلا انسحب العته والجنون على الأمة كلها. وهذا ما يحدث؛ عندما لا تتبرأ الأمة - ممثلة في نخبها - من سلوكيات لا تخرج عن دائرتي: العته والجنون. عندما يقذف إعلامي رئيس دولة ما بحذائه، فإن هذا سلوك لا يعبر عن شجاعة ولا عن موقف، وإنما يعكس طبيعة وعي من قام به. وعندما تنادي الوسيلة الإعلامية التي يتبعها بالإفراج عنه، بل وتقيم له جوقة من المحامين، فإنها تصبح تعبيرا عن إعلام أحذية، وليس إعلام كلمة وصورة. وعندما تتبرع النخب القانونية بالدفاع عنه، فإنها - حقيقة - تدافع بأحذيتها عن إعلامي حذاؤه لسانه. وعندما تتبرع رؤوس الأموال بتأييده بأموالها، فإنها - في الواقع - أموال بقيمة حذاء، وشرفها لا يتعدى هذه القيمة. وعندما يكون التأييد من هيئة متلبسة بالعلم - ومن قبل متلبسة بالإرهاب كما يعلم الجميع - فهي - كما اختارت بمحض إرادتها؛ فهنيئا لها - هيئة دفاع عن أحذية، لا أقل ولا أكثر. ما وقع؛ عار على فاعلة، ولا ينال الرئيس: بوش، أي أذى معنوي جراء هذا الفعل. بل هو تعبير - مهما كانت السلبيات التي رافقت تحرير العراق من صدام - عن مستويات الحرية التي كانت في الماضي حلما. وهذا الإعلامي الذي شوه صورة الإعلام، يعرف أنه في العهد الصدامي المجيد!، لم يكن مسموحا له بشرف تقبيل حذاء السيد الرئيس المهيب!، ويعرف أن مجرد سؤال - ربما يكون بريئاً - قد يقوده إلى أقبية الإعدام. يعتذر بعض الإعلاميين العراقيين المهذبين عن فعلة زميلهم بأن سلوكه نتاج تربية المرحلة الصدامية، وأنه لم يتعود على هذه البيئة الديمقراطية من قبل، أي أن تعامله - كإنسان معجون بمستنقع الاستعباد منذ الحجاج إلى صدام - مع فضاءات الحرية، كان جديدا، ولهذا كان تعاملا مرتبكا، صدر على هذا النحو البدائي الذي يعد فضاء الحرية فضاء للفوضى والسلوك المتوحش. وهذا عذر يدان به هذا السلوك، وليس عذرا يمنح شيئا من الاعتذار الحقيقي الواجب علينا جميعا. ما أريد أن أؤكد عليه بإلحاح، أن المشكلة ليست في هذا الحادث - كسلوك فردي، يفترض أن يكون محصورا في صاحبه - وإنما هي في طبيعة التلقي العربي لهذا السلوك. نحن - كعرب - مسؤولون - بشكل ما - عن هذا السلوك، بوصف الفاعل عربيا، أي لكوننا - للأسف - منتمين إلى الفاعل، ضمن دائرة الانتماء العربي. ومن ثم؛ فالواجب علينا أن ندين هذا الفعل الداعر بأقوى ما نستطيع؛ حتى لا يلحق شيء من عاره بنا. لكن، ما حدث صورة معاكسة لما يجب. فطبيعة التلقي العربي كانت مخجلة، تعكس أن الوعي العام لا زال بدائيا، يؤكد الصورة النمطية عنا. سلوك فرد، مؤشر على وعي جماعة؛ عندما يكون مقبولا لديها. وهنا الفرق بيننا وبين العالم المتحضر. عندنا يتم قبول هذا وتمجيده، ورفع فاعله إلى درجات القبول. بينما في العالم المتحضر، يتم تحويل فاعله إلى أقرب مصحة عقلية. وبهذا يكون المجتمع العقل بريئا من خطرات الجنون. وهذا ما يحدث في قضايا الجريمة والإرهاب. فليست المشكلة في واقعة الجريمة أو واقعة الإرهاب، فقد تحدثان في أي مكان ومن إي جماعة بشرية، وإنما المشكلة عندما تتم الشرعنة لهذه الجريمة ولهذا الإرهاب. إننا نعرف أن أسر وعوائل وقبائل وأوطان الإرهابيين كانت بريئة من أعمال الإرهابيين والمجرمين، ولا يد لها في انتمائهم لها، إلا أنه كان عليها - في الوقت نفسه - أن تعلن براءتها من أفعالهم؛ لأن طبيعة الانتماء ملتبسة، وقد يتعرض أفراد الانتماء لنوع من الاشتباه؛ في حال عدم التصريح بالبراءة. وكما هي الحال مع ظاهرة الإرهاب، فنحن - الآن - لا بد أن نعلن البراءة من الأفعال الهمجية التي تصدر عن من ينتمون إلى دوائر الانتماء التي ننتمي لها، بكل صراحة وبكل وضوح وبكل حزم. وأخيرا، لا بد أن ندرك - وخاصة الذين ابتهجوا بهذه الواقعة الحمقاء - أن عار هذه الواقعة لا يطال الرئيس: بوش، ولا الحكومة الأمريكية، كما يتوهمون، وإنما يطال الفاعل ومؤيديه. وحديثا وقديما، وقع مثل هذا الاعتداء على عظماء، بل وعلى من لهم شيء من القداسة في تاريخنا، وبأسوأ من الأداة التي استخدمت في الاعتداء، فلم ينقص ذلك من أقدارهم، وإنما أصبح عار الفعل الهمجي - إلى اليوم - يلاحق الفاعل ومؤيدويه، ولا زالوا محل ازدراء واحتقار من قبل الجميع.