اعتاد أهل هذه البلاد الذين يتعاملون مع محلات البهارات والمحامص أن يروا رجلاً من الشام ، سوريّا أو لبنانيّا أو فلسطينيّا أو أردنيّا، يعرف مطالب الزبائن، ويقترح النكهات والخلطات للمأكل والقهوة، ويستبعد ويقرّب، ويحمس ويطحن. فمنذ أن بدأنا نتعاطى تلك المستلزمات المنزلية، ذات الصلة المباشرة بالذوق والمزاج، كان الذي يتعامل معنا فاهماً بما سوف يبيعه لنا . نطرح عليه الأسئلة ويقول لربات المنزل الكثير عن المقادير، والمدلول الدقيق أو النسبي للمادة، دون تخمين ولا مبالغة لكونه "صاحب صنعهة".. ويكاد صاحب المحمصة أن يعرف روّاده بأسمائهم.. "أهلين أبوفلان.. شو بتؤمر؟". ألا تُلاحظون أننا في السنوات الأخيرة صار مُلاك ومديرو المحامص من غير الناطقين بالضاد، فإن أشار الزبون بإصبعه إلى مايريد يحصل على الخدمة وإن سال عن شيء راح في متاهات مفرداتية.. مع الباعة الذين لا يكادون يفقهون قولا. لمكونات الغذاء الشرقي أسماء طويلة ومختلفة المذاق والمقدار وأيضا المزاج. ووجدناهم أخيرا (أي الملاك الجدد) يسوّقون عبوات من البهارات قد لا تتناسب مع أجواء (وبطون)(أهل بلادنا.. ولا أعلم لماذا ترك الشامي الذواّقة (أقصد السوري واللبناني والأردني والفلسطيني) وباع النشاط إلى رجال لا نعرف نتفاهم معهم إلاّ بواسطة الإشارة؟ تحميص الحب - وأخص القهوة - هوبراعة العربي.. قال الشاعر المرحوم محمد العبدالله القاضي، ضمن قصيدة "القهوة" المعروفة : - دنّيت لي من غالي البن مالاقء .. بالكف ناقيها عن العذف منسوقء إحمس ثلاث يانديمي على ساق ... ريحه على جمر الغضا يفضح السوقء وإايّاك والنيّه وبالك والاحراق. ..واحذر تصير بحمسة البن مطفوق قد يحتاج بعض القرّاء تفسيراً وسأجتهد : البيت الثاني: على ساق، بالتتابع.. حتى لا يتصير الكمية الأولى باردة .. والأخرى حارة . يفضح السوق، يشم رائحتها المار في الطريق. البيت الثالث : النيّه - معروفة، أي لم تأخذ حقها من التحميص أو "الحمس" البيت الثالث : مطفوق، متعجل، متهوّر، غير متأن.. بقى أن أقول إنّ مسألة سرّ انتقال ملكية تلك الدكاكين إلى "عمالة" مُستقدمة غير ماهرة بأسلوب ماهي مقدمة عليه، لا يمكن التحكم بها بواسطة أنظمة أو تشريعات تصدرها جهات تجارية أو بلدية، فالمسألة مسألة أمزجة المجتمع التي صارت تتنكر لكلّ ماهو جميل ونافع.