يغضب البعض منا أو يصاب بالإحباط حين يتأمل أوضاع المجتمع الذي يعيش فيه ويجد الكثير مما يعده تخلفاً في ذلك المجتمع فيعبر عن ألمه بتساؤل يحمل الألم والعجب معاً: كيف يحدث هذا ونحن في القرن الواحد والعشرين؟ ومع أن ذلك الشخص قد يكون معذوراً في ألمه - لكثرة ما يبعث على الألم فعلاً في المجتمعات النامية أو المتخلفة، سمها ما شئت - فإن تبرير الألم بكون المجتمع لا يعيش في القرن الواحد والعشرين هو بحد ذاته مما يثير التساؤل بل ومما لا يثبت عند النظر الجاد في تلك العبارة وما تنطوي عليه، إذ إن ثمة فرضيات تقوم عليها العبارة ودلالاتها هي من قبيل الكليشيهات الشائعة وغير الممحصة. ولعل أوضح تلك الفرضيات هي أن كوننا نعيش في القرن الواحد والعشرين يقتضي سلوكيات أو تصورات معينة أو يعني جملة من المتغيرات في الحياة وأنظمتها ومؤسسات المجتمع وما إلى ذلك مما لا تستقيم الحياة بدونه، وبالطبع فإن من يعتقد بأن من الضروري أن يعيش المجتمع في القرن الواحد والعشرين أو يواكبه يعتقد أيضاً أن القرن الواحد والعشرين هو أفضل القرون وأعظمها. فهو لن يطالب المجتمع بأن ينتقل للقرن الواحد والعشرين لو لم يكن يرى من الفضائل والإنجازات ما يبهره ويريد الآخرين أن يعيشوه. وعلى المدى البعيد تنطوي هذه النظرة على الاعتقاد بأن مضي الزمن يعني تطور الإنسان والحضارة وعلى نحو أفقي منتظم. لكن لعل السؤال الرئيس الذي يتفرع عن مقولة القرن الواحد والعشرين هو: أين تتحقق عظمة هذا القرن؟ أو في أي المجتمعات تتحقق تلك المقولة؟ والإجابة البدهية هي الغرب: أي أمريكا وأوروبا. ويعني هذا أن المطالبة بالعيش في القرن الواحد والعشرين تعني المطالبة بتطبيق أساليب الحياة وأنظمتها وتطوراتها كما هي في ذلك الجزء من العالم. ومعنى أيضاً هذا أن للقرن الواحد والعشرين مرجعية زمنية ومكانية، فالمقصود ليس القرن بحد ذاته بل الكيفية التي تتحدد بها دلالاته أوما يتضمنه ويدل عليه. القرن الواحد والعشرون هو القرن اليوروأمريكي بطبيعة الحال، تماماً مثلما كان القرن العشرين وما قبله بقرون عدة. إنه القرن الذي تحدد فيه الحضارة الغربية كيف ينبغي للعالم أن يعيش ويفكر ويسلك. ومن المؤكد أننا سنضحك على أنفسنا لو قلنا أن هذا التحديد الغربي هو ما يحدث فعلاً، لكننا سنضحك على أنفسنا أكثر لو ظننا للحظة واحدة أن الشعوب الأخرى بمقدورها أن تتغير حسب ذلك التحديد إذا هي أرادت. أقول هذا على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة التي تجعل العالم قريباً من بعضه أو كما يحلو للبعض أن يقول "قرية صغيرة" - وهذه من المقولات المكررة أو الكليشيهات التي تحتاج إلى مراجعة. فنحن في السعودية ودول الخليج، مثلاً، لسنا بعيدين عن أية دولة أوروبية على مستويات معينة: الاتصالات والنظم البنكية والعمارة الحديثة وبناء الطرق وبعض جوانب من الطب والهندسة، صحيح أننا في هذه الجوانب مستهلكين أكثر منا مبدعين، أي أننا لسنا مثل ألمانيا، لكننا أفضل حتى في الاستهلاك من بعض الدول الأوروبية نفسها مثل رومانيا أو سلوفاكيا، وكلتاهما دولتان أوروبيتان. ويعني هذا أننا - وحسب منطق دعاة التطور الأفقي - في القرن الواحد والعشرين أو في بدايته أو نهاية الذي قبله إذا كانت ألمانيا أو فرنسا على وشك إنهاء عقده الأول. لكننا في نفس الوقت وبكل تأكيد أبعد ما نكون عن أوروبا المتطورة في وجوه كثيرة أخرى منها: أنظمة الزواج وتكوين الأسرة والعلاقة بالدين ونوع النظام السياسي وتطبيق القوانين، ولا أظن أن من المحتمل قريباً أن نوازي تلك الدول على هذه المستويات. فإن كنا نحن وفرنسا في قرية صغيرة في مجال الاتصالات والبنوك وما إليها فإننا على مسافة قارات في الجوانب الأخرى. فمن غير المتوقع - وغير المرغوب به - أن تنحسر قيم كثيرة لدينا فنسمح مثلاً بزواج الشاذين، ولن أقول "المثليين" كما يفعل الغرب وكما يسمح الكثير من قوانينه بحكم الحرية الفردية، أو أن تنحسر الحياة الأسرية أو تتلاشى، كما هو الحال في كوبنهاغن أو نيويورك. كما أن من غير المتوقع، وإن كان مرغوباً به في هذه الحالة، أن نحقق في المدى القريب ذلك القدر من العدالة الاجتماعية والاقتصادية والشفافية وتطبيق الأنظمة الذي تحقق لكثير من الأوروبيين، علماً بأن تلك القيم مرتكزات أساسية في معتقداتنا قبل أن تكون شيئاً يرتبط بالغرب. وحين أتحدث "عنا" فإنما أقصد معظم العالم غير الغربي، فما يصدق على الوطن العربي في هذا المجال يصدق على أندونيسيا والهند ومعظم دول إفريقيا. هذه المتغيرات وغيرها جزء من القرن الواحد والعشرين، بل إن منها ما تحقق في أوروبا منذ زمن يسبق القرن العشرين بمدة طويلة. من يردد مقولة القرن الواحد والعشرين سيعلق بأنه يقصد جوانب معينة أو ما يمكن اعتباره جوانب إيجابية من تطورات القرن: حقوق الإنسان، الديمقراطية، الشفافية، النظام، النظافة، المستوى الصحي الرفيع، وسيحتج بأن في ما أقوله عنه ما لا يعدو أن يكون بحثاً عن الوجوه "السلبية" في تطورات القرن لأصمه بها. والحق أن الجوانب الإيجابية موجودة في أوروبا كما هي الجوانب غير الإيجابية، أو ما نعده كذلك منها. لكن الواضح هو أن هذا كله يؤكد أن مقولة "القرن الواحد والعشرين" مقولة هزيلة ينبغي أن نتوقف عن ترديدها لكي نستطيع الاستفادة من الحضارة المعاصرة دون أن نجعلها زمنيا أو مكانياً مرجعية قصوى لأحلامنا. وحين تتوقف تلك الحضارة عن أن تكون مرجعيتنا القصوى سنبحث في قدراتنا الخاصة ووجوه تميزنا على النحو الذي نستطيع من خلاله ألا نستنسخ الآخر وإنما أن نضيف إليه. لكن إن نحن اتفقنا على أننا لا نعيش في القرن الواحد والعشرين أو لا نستطيع العيش فيه بالمعنى الذي ذكرته، فإن من الواضح أيضاً أننا لا نعيش ولا نستطيع أن نعيش في القرن السادس أو السابع الميلادي، أي القرن الأول الهجري حتى إن نحن أردنا، والإصرار على الانتظام في أي من تلكما الفترتين الزمنيتين بما يعنيه ذلك من تبن لكافة أو معظم وجوه الحياة والتفكير فيهما هو ضرب من خداع الذات أو "الدون كيشوتية"، أي محاربة طواحين الهواء كما لو كانت أعداء. فليس من الممكن أن نتخلى عن مكتسبات حضارية كبيرة ليس على المستوى التقني فحسب كما يقال عادة وإنما على مستويات اجتماعية واقتصادية وعلمية. وفي تقديري أن ضرر كل من الدعوتين، التي تبحث عن القرن الواحد والعشرين والتي تبحث عن نقيضه، يكاد يتساوى لأن كليهما يتجاهل الواقع الحاضر ولا ينطلق من تعقيداته إلى مستقبل متميز باستقلاله. تحضرني في هذا السياق عبارة للمؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي يقول فيها: "إن موقفنا اليوم يتلخص في رفض تراثين: تراث الثقافة المسيطرة على عالمنا الحاضر التي تدعي العالمية والإلمامية وتعرض نفسها علينا إلى حد الالزام والضغط ولا تفتح لنا باباً سوى باب التقليد أو الاعتراف بالقصور، وتراث ثقافة الماضي الذي اخترناه تعبيراً لنا في عهودنا السابقة لكنه لم يعد اليوم يعبر عن جميع جوانب نفسياتنا". هذا الكلام من كتاب العروي "العرب والفكر التاريخي" سيختلف فيه الكثيرون معه، مثلما سيتفق معه فيه الكثيرون أيضاً. لكن لكي يفهم كلام الرجل ينبغي أن نلاحظ أن ما يرفضه في الأساس هو "التقليد" سواء اتجه إلى الغرب أو إلى الماضي، فهو يتابع قائلاً: "إننا مطالبون بنهج طريق ثالث غير طريق تقليد الثقافة الغربية الحديثة.. وغير طريق تقليد الثقافة العربية القديمة". هذا الطريق الثالث ترتسم معالمه العامة حين يقول العروي "إن الثقافة الغربية التي تدعي العالمية ليست عالمية تماماً، تنقصها تجربة، هي تجربتنا التي، إن نجحنا في تشكيلها، ستكتسب مدلولاً عاماً". ما أود إضافته لكلام العروي هنا هو أن دعوى العالمية لا تصدر عن الثقافة الغربية بقدرما تصدر عنا نحن، فنحن نمنح تلك الثقافة عالميتها بالانضواء الأعمى أو الأبله تحت لوائها، نستنسخ أكثر مما نضيف. ويصدق الشيء نفسه على ثقافة الماضي التي لا تطالبنا بتقليدها بقدر ما نطالب أنفسنا بذلك. فنحن في الحالين أقرب إلى أولئك الأقوام الذين وصفهم القرآن الكريم بالذين قالوا "إنا وجدنا آباءنا على ملة" إلى آخر الآية. ففي كلا الحالين نحن أحوج إلى الطريق الثالث الذي نكون فيه أنفسنا، أي نصدر عن أصالتنا ورؤيتنا وتجاربنا بعد أن تغتني بثقافتها وثقافة والآخرين دون أن تستنسخ أياً منهما. الأزمة المالية العالمية حالياً تكشف، وإن على نحو غير مباشر، خطورة ذلك الاستنساخ متمثلاً هنا في الانتظام في النظام الرأسمالي المفتوح دونما وعي أو رقابة. ففي نهاية المطاف يقوم هذا النظام على فلسفات ونظريات في الاقتصاد يقبل عليها العالم في كثير من الأحيان دونما فهم حقيقي لها وبالتالي دونما تمحيص كافٍ، الأمر الذي يؤكد أهمية الاستقلالية في الرأي. فما يحدث على مستوى الاقتصاد يحدث على مستوى المجالات المعرفية والتطبيقية الأخرى، في القوانين ونظريات التربية والإعلام والاجتماع بل حتى كثير من النظريات في العلوم الزراعية والبيولوجية والطب وغيرها.