- 1- * حين تتحول العزلة المنيعة في بلد قاسٍ كالسويد، لحالة تسترد الروح زخمها واعتراضها ولو بأعلى التكاليف بما اسميه بالرضّ الوجودي الذي يأخذ بالخناق لكنه ينتج كتبا نفيسة، فنحن نحمل معنا جميع ما نستحقه أيضا؛ الألم في مرتبته القصوى وإنتاج الكتابة الرقراقة.هكذا هو الشاعر والناقد والباحث العراقي فاروق يوسف، لا يطمح حتى للرضا عن النفس الذي يطيح ببعضهم زهوا وغطرسة تثير الشفقة قبل أن تغادر أرجلهم البلاد الأصلية، وبعد أن تطأ أقدامهم الأرض الجديدة. فاروق يفحص الأنواع والذوات في كل كتاب يقوم بتأليفه وهو نشر على ما أتذكر أربعة كتب وربما أكثر خلال عامين آخرها كتابه الآسر (لاجىء تتبعه بلاد تختفي) سلمني إياه حين مر بباريس قبل أسابيع ولذلك قد أغلط بالحساب وأتصور أنني شريكة غير مرئية في كل كتاب دونه مرددة في بعض الصفحات؛ حسنا قام بما لم أقدر أو أقوى على الإتيان به. تتضاعف مسرات الكتابة الجوانية وهي تحاول الاقتراب من فؤاد منفي فعلي عن تلك البلاد، العراق، ومنفي عرضي في أسوج ينتمي إليها الكاتب بنوع من العذاب، هو كل ما بقي في حوزته من هناك إلى هنا فنظفر بتدوينات؛ يسميها في كتابه الجديد الصادر عن دار الأمل التونسية ب- (مائدة من هواء) والتي تعني في الأخير؛ محاولة تمّلك الكائن لنفسه. لم يضع ابن يوسف وهو في بلد صخري جليدي غابوي ثانية من زمنه، يكتب ويتمرد، يمحو يتعلم ويشهق ولا يريد أن يتساوى في كشوفاته ويومياته مع احد، يزداد تماسا مع عرامة وضراوة العيش والبشر، بين ثلوج نظيفة وسخونة وعي أمام أمة تدعى بالاسكندنافية، التي لا نعرف عنها إلا شائعات ووشايات ما أن نستفيق منها حتى يواجهنا الكاتب بجهلنا التام. هذه بلاد أصغت جيدا لنداءات الاسترحام من مهجرين ومنفيين ومن عموم البلدان المنكوبة بالقهر والاستبداد والاحتلال، فشيدت لهؤلاء السكن النظيف وأنفقت من ميزانيات شعوبها الكثير للعلاج، وهي أيضا: "المكان هذا منفى سري للجمال، فدائما هناك ما لم نره". - 2- مائدة من هواء كتاب أنيق، رشيق كأنه أتقن جميع أنواع الرياضة الروحية باكتشاف بقع داخل النفس البشرية أصلا لم نكن نعلم أنها موجودة. هو كتاب في مديح الرحابة الإنسانية لدولة بعيدة مطوية على كنوز طبيعتها وبشرها في المسؤولية والإصغاء للآخر والقبول به برقي قل نظيره. كتاب يجعلنا نقف ثابتين على الأرض لأن هناك مثل هذه الأمم تجعل البشر، حتى الفاسدين واللصوص، يحاولون، ربما، إعادة التأهيل ثانية من اجلهم وبالدرجة الأولى: "هناك نظام يقف ضد الفقر، نظام يطارد الفقر وفق تعريف دقيق، لا ينحرف عن هدفه منذ بداية ستينات القرن الماضي قال الأسوجيون: لا للفقر، وحققوا ذلك الشعار من خلال حقوق لا يمكن التنازل عنها؛ السكن، التعليم، العمل، الطب، رعاية الأطفال والمسنين والدخل الثابت للعاطلين عن العمل". - 3- صديقتي السويدية كاترين لامب والتي تعرفت على يوسف في إحدى زياراته لباريس. هذه المخلوقة ما أن أنادي وبوجع، ولو همسا إلا وتستجيب للنداء أفضل وأحنّ من ومن.... لا تتصيد الأخطاء ولا تقاصص بما لا نقوى على احتماله من ثقل الصداقة، ولا تطلق النيران عليك إذا ما قلت لها في احد الأيام: إن ما تقومين بطبخه أسوأ مما يمكن أن نجامل عليه أي صديقة. تبتسم كطفلة وتغرف مما أقوم بطبخه حين أدعوها إلى مائدة من أطباق عراقية تقول عنها لذيذة. فاروق يوسف هو الآخر عقد صداقات شتى وهو يجوس أرضا بتولا لتنتهي جولاته في غرفة المعيشة، وسط أسرته اللطيفة وأمامه جميع عناصر ومكونات المطبخ: "ما يتناوله الأسوجيون من الأطعمة ينقصه الخيال بسبب خلو طبيعتهم الصعبة مما يؤكل لذلك فإن الفقر واضح في مطبخهم، بل ليس هناك في الحقيقة مطبخ يقال له سويدي". بحساسية شديدة يستحق عليها الشاعر جائزة للتلاقح والتعايش البشري ما بين أمم مختلفة ومتناقضة لكنها تلتقي في مكان نادر يقدر بعضهم الكاتب نفسه، أن يأخذنا معه إلى أقاصي الموهبة بريقا والرؤية عمقا وهو يولي جميع الموجودات والكائنات هذا الحنو الذي أغبطه عليه وهو يواجه المصاعب كمهاجر، أراه يتقوى على الخذلان بمعاينة الروح أكثر والبحث عن الحقيقة، هو ذاته البحث عن الذات. حاول باستماتة أن تكون رواية اللجوء كما حصلت بالضبط لحظة بعد لحظة، كما دونها فعلا، وكيف حاولوا أن يثنوه عن كل هذا وهم كثر، من أبناء جلدته ومن جنسيات أخرى فكانت تصرفاتهم تثير الخزي: "كل مهاجر هو حكاية. يكتشف بدهاء أن الزيف هو الحقيقة الوحيدة القابلة للتداول. فيقول المهاجر القديم للجديد، إياك أن تقول الحقيقة، الأسوجيون لا يحبون سماع الحقيقة. لعنة الاعتراف بالحقيقة ستطاردك أينما حللت". - 4- ازعم أن فاروق يوسف لم يفعل أي شيء في بلاد أسوج إلا تعلم المزيد من التواضع إزاء بشر مختلف معقد ويبعث على الاعجاب والتقدير. كل صفحة في كل كتاب من كتبه يقول لك التنوع المعرفي والعصيان الوجودي. دهشته بالجمال تآسرك وأنا أستعيد فقراته وآليات هذا النوع من الكتابة التي لا يوافقها أي تجنيس فهي أسفار من خيارات روحية وجمالية للوصول للمزيد من البهجة والمسرة حتى لو كان بعيدا عن البيت الأول، بغداد. ففي كل كلمة وبدون مبالغة كنت أشم شياط قلب وهو يتفتفت فوق جمر تلك البلاد. تتبعت مسرى شاعر وناقد يكتب عن أصدقائه وفي عموم كتبه ما يجعل الصداقة موهبة عظيمة لدى بعض البشر، بين بعض الكتاب وبعض الكاتبات والشعراء والرسامين الخ، ما يعزز الأيمان بالدنيا فيصير للحياة أكثر من مغزى وقيمة. يكتب عن صديقه الشاعر والباحث اللبناني شربل داغر: "شربل في حياته هو الشخص ذاته الذي تنبىء عنه جهوده الأدبية الصافية والنزيهة التي حرص دائما أن يقوي أسسها". اخبره في أحد الأيام: "كنت في الكويت فسمعت انك في البحرين فاخترت أن أسافر عن طريق البحرين لنكون معا بضع ساعات". @@@@ يبدو الأمر ليس بديهياً أن تحب بلدك، بلى هكذا....!!!. ولكن، نحب ولا نلجأ للاستعارة أو المجاز، هو الموجود الذي نتقوى به ولا نعرف ما هو، ولا احد بمقدوره الظفر به ولوحده. جميع كتابات الأرض تتيح لك الذهاب إلى مدى أبعد، لكنه وحده يظل يمهد للأبعد: "لا أزال تحت تأثير يوم واحد فريد في حياتي، هو اليوم الأخير منها: ذلك اليوم الذي التفت فيه إلى العراق وقلت له وداعا، مسحورا بغربتي أكتب لأسعد ذلك الشخص الذي كنته يوما ما، يوم كان لي وطن".