باختياره المملكة هدفا لواحدة من زياراته الأولى للخارج، جسّد العماد الرئيس ميشال سليمان العمق الأصيل لشخصيته وشخصية الوطن الذي بايعه من موقع الاختيار قائدا لمسيرة طليعية هتف بها لبنان سباقا على طريق النهضة العربية منذ أيام العثمانيين ثم الفرنسيين وصولا الى الاستقلال عام 1943الذي لعبت المملكة العربية السعودية أحد أهم الأدوار لتدعيمه. وليس اخرا اتفاق الطائف الذي أرسى قواعد السلم الاهلي. وعندما نسمع الملك عبدالله بن عبد العزيز يقول خلال لقائه الرئيس ميشال سليمان: "ارفعوا اليد عن لبنان ...غالبية العرب يحبون لبنان وعلى اللبنانيين ان يحبوا وطنهم ويعودوا الى ضميرهم ، لان لبنان متنفس العالم العربي. واسمع اننا مع ناس وضد ناس ، نحن مع الحق ومع الجميع وعلى مسافة محبة واحدة، ومحبتنا للبنان لا نبتغي منها اي فائدة او مصلحة، وأكبر عيب على الانسان ان يتعاطى مع أخيه بالسلاح". عندما نسمع هذا الكلام يعني ان المملكة بما تعني من قوة الروح والمادة تصنف مصالح لبنان مصالح لكل الاقطارالعربية، والمساس بلبنان هو مساس بالاخوة مع العروبة كنطاق ضمان للمصلحة العربية العليا وللاخوة القومية. لا نريد هنا العودة الى تلك العلاقة الخاصة والقديمة التي ربطت لبنان شرق المتوسط بجدّة وحجاز البحر الأحمر خاصة وهي العلاقة العملية والروحية التي كانت بقياس ذلك الزمن وكل زمن قوية ومتنوّعة، ولا حاجة الى استحضار كتابات كثيرة أجنبية وعربية حول هذا الموضوع ومنها كتابات اللبناني المتني الشهير أمين الريحاني الأولى عن مملكة عبد العزيز آل سعود التي نالت في زمانها رتبة خاصة لا بين الروبورتاجات الصحفية ذات المكانة العالمية فحسب بل بين الكتابات الجيوسياسية المتقدمة، كما أنه لا نريد أن نتوقف عند تلك الاجتماعات الأولى في المملكة التي كان قد دعا اليها في زمن متقدم الملك السعودي من أجل القضية الفلسطينية رجالات العرب بل رجالات العالم الاسلامي ومنهم لبنانيون كان منهم رياض الصلح وغير لبنانيين بغرض تكريس زعامة الحاج أمين الحسيني دفاعا عن فلسطين المهدّدة منذ تلك الأيام وانما نتجاوز ذلك الى دور المملكة الاكثر مباشرة وصلة بتأسيس جامعة الدول العربية على يد العربي المصري البارز ذي العلاقة الوطيدة بالمملكة عبد الرحمن عزام، ولقد كان ذلك في زمانه أمرا في غاية الأهمية لأنه جاء اول تكريس رسمي دولي الطابع للعروبة كحقيقة رسمية شاملة لدول عربية متعددة تربطها رابطة المصير والثقافة والتاريخ والتوجه نحو المستقبل. يعجب الانسان وهو يقرأ في صفحات ولادة جامعة الدول العربية على أيدي ذلك الرعيل السياسي بل والقومي درجة الوضوح في الأهداف والأولويات وخاصة عمق الشعور بالمصير الواحد للأمة على نحو نكاد نفتقده الآن وقد مرّت عليه عشرات السنين والعقود. ان أولويات ساسة ذلك الزمان نراجعها اليوم وكأنها هي أولوية هذا الزمن أو على الأصح ما ينبغي منها أن يكون قد صار أولوية وهو في الحقيقة لم يصر ذلك بعد. على ضوء ما يجري اليوم في فلسطين خاصة والعراق ولبنان يشعر كل مراقب للواقع السياسي العربي كم أن هذا الزمن العربي لا يتحرك وفقا للوصايا التي كان قد أوصى بها الأولون فالوقائع كانت أشد استعصاء مما قدّروا أو رغبوا وخاصة مما خطّطوا. فمن محاضر جامعة الدول العربية أنه في آخر أحد الاجتماعات التي تقرر فيها اطلاق جامعة الدول العربية رسميا وكان المندوبون المشتركون آنذاك من خمس دول، قال أحدهم: "الآن وقد أقرينا ما بين أيدينا ولم يبق الا اعلان ما اتّفقنا عليه، هل لنا أن نتفق على معايير حرة من كل دبلوماسيات وتمنيات نقيس بها درجة نجاحنا أو عدمه في مسيرة ما بعد تأسيس الجامعة؟" بعد مهلة قصيرة نسبيا من التفكير ولكن صادقة، جاء جواب الأكثرية الساحقة مؤلفا من سؤالين، رأى الحاضرون فيهما معيار الفشل أو النجاح، السؤال الأول فلسطين هل ستبقى عربية والى أي درجة، والثاني الميثاق الوطني الذي قام عليه لبنان المستقل هل يستمر على قيد الحياة؟ الملاحظ ان أحدا من المشاركين لم يطرح في ذلك الوقت مزايدة ما، بل نجد الجميع قد التزموا على ما تقول الروايات استبعاد الانجازات الكبرى ليبقى السؤالان الأقل طموحا والأقرب الى الواقع: فلسطين هل يبقى منها ما يستحق أن يسمى الجزء الأكبر من فلسطين والثاني الميثاق الوطني اللبناني هل يبقى السيد المطاع على أرض لبنان؟ منذ فجر استقلال عام 1943، والكلام في جوهر العلاقة اللبنانية العربية بل في جوهر عروبة لبنان غائب نسبيا أو شبه غائب بل اذا ورد بلفحة بيانية روتينية شاحبة، وقد كان على اللبنانيين والعرب أن ينتظروا مجيء الرئيس سليمان الى الرئاسة وزيارته قلب العروبة حسب وصف الريحاني القديم للمملكة حتى يسمعوا وللمرة الأولى بمثل هذه الدقة الكلمات القواعد : ان كل لبناني يتعرض لأشقائه في الاعلام وبصورة خاصة للمملكة العربية السعودية يكون قد ابتعد عن عروبته في احترام كبير للنفس والوطن ولعزّة المنطقة في عين القريب والبعيد، وقال: ان مسيرة الوطن ستتعزز وستتعزز أكثر فأكثر وان نهاية الارهاب في مناطقنا العربية والاسلامية ليست بعيدة. كان اهم ما في هذا الكلام مطابقته الواقعية غير المفتعلة والصادرة عن الرئيس المجرد الذي احتاجته وتحتاجه البلاد والذي بكلامه دائما رائحة الفعل والذي تخطى به على سبيل المثال تهيب سلفه الكبير الرئيس فؤاد شهاب من مسؤوليات منصب الرئاسة حين قال في أول خطاب ألقاه رئيسا في مجلس النواب اثر انتخابه: من موقع قيادة الجيش حيث الفعل للكلمة الى منبر هذه الندوة أي المجلس النيابي مسافة علّها أصعب ما اجتزت في حياتي. ولعلّ تجربة الرئيس سليمان ونجاحه في نهر البارد وعمومية الترحيب به كانت من أسباب اضفاء طابع الصدقية والواقعية على كلامه، فلا مفر لأهل الصدق من القول أنه كان على الأغلب متروكا في ذلك الزمان لرئيس الحكومة الكلام الأوضح في السياسة والأكثر تاريخية وقد تجسدت في زمانها في خطاب رياض الصلح في جلسة النواب التي نالت بها حكومته الثقة حيث بشّر ان لبنان بعد الآن لن يكون للاستعمار مقرا أو ممرا بل وطنا سيدا مستقلا حرا. لعلّ كلام الرئيس سليمان جاء الأشبه بكلام رياض الصلح الذي كانت به البداية. انها ظاهرة الالتقاء بين الماضي والحاضر على مبدأي اللبنانية والعروبة فلبنان أغنى بالتاريخ وأغنى بالوطنية واغنى بالثقة بالنفس قديما وحديثا ممن صوروه ويصورونه غرسة يمكن ان تسلخ عن ترابها بسهولة. لقد بدأ لبنان استقلاليا وعربيا عام 1943، وها هو يبقى مغروسا في تراب الكرامة والعروبة نفسها بلا تغيير ولا تعديل في الجوهر بل بالعكس نموا واستقواء ومعرفة أدق بالطريق وسر البقاء والطليعية لواحد من أصغر أوطان العروبة حجما ومن أكبرها طموحا ورهانا على حقائق الحاضر ووعود المستقبل. ان لبنان ليس كما يتصوره البعض وطنا بلا تاريخ ومشاعل تضيء له الطريق بل وبالعكس وطن تنير له تجارب الماضي طريق المواجهة للحاضر والمستقبل فكلما تأمل اللبنانيون في مسيرة رئيسهم الحالي العماد سليمان تبينوا بوضوح مدى تماسك التربة الوطنية التاريخية التي يدعوهم للسير عليها وبها وحدها يستمر لبنان وطنا مرفوع الرأس طليعة نهضوية في أرض الله.