لن تُحسم مواضيع الحرية والتطبيقات الديموقراطية بالفرض أو الاستيراد، والدليل أن كثيراً من الدول وضعت أولوياتٍ لمفاهيمها بإقرار ما تعتقد أنه الأنسب لطريقها السياسي والاجتماعي، وقد كثرت الأسئلة حول من يستطيع أن ينفذ الحكم المدني، ويفصل بين السلطات ويعطي الحق كاملاً للإنسان أياً كان معتقده ونزعته، لكن هل يمكن جعل هذه التطبيقات متاحة في بلد يغلب عليه مجتمع العشيرة، أو الفصل العنصري بين الأجناس، أو خلافات مذهبية ودينية تجعل مثل هذا النهج خطراً أمنياً؟ مقابل ذلك يأتي سؤال آخر كيف نجحت الديموقراطية في بلد متعدد الأعراق والأديان والطبقية الاجتماعية، ولم تنجح في بلدان عربية أكثر تجانساً في جذورها، وموروثها الثقافي، والعقيدة الواحدة؟ لا يمكن الحصول على تفسير موضوعي للحالتين، إلا أن العربي الذي يطغى على جغرافيته جفافُ الصحراء، و(الفردانية) وانتصار العصبة والقبيلة على المفهوم التاريخي للوطن، لا يستطيع أن يفك عُقد الجغرافيا وتعقيداتها مع الإنسان.. هذه المقدمة تأتي بعد انعقاد "منتدى المستقبل" في الإمارات العربية المتحدة، والذي سيأتي تركيزه على بناء عالم عربي بأسلوب يأتي من بنيته السياسية والاجتماعية، وخارج ما تركّز عليه أمريكا مثلاً من بدايات مشروع، "أيزنهاور" في وجود الفراغ الذي أراد تطويق الاتحاد السوفياتي بقواعد عسكرية، مروراً بالشرق الأوسط الكبير، واستبدال مكافحة الشيوعية، بمكافحة الإرهاب، وهي مَلازم في كتاب الدعوات المتصلة التي تدعي الإصلاح، لكن بمشروع يولد في أمريكا، ويُعمل به في الأرض العربية، وقد لا تكون الأهداف متطابقة، طالما فشلت في العديد من الدول، وأنها، أي أمريكا، أكبر نصير للدكتاتوريات التي بنتها وتعايشت معها عندما كانت تخدم أغراضها.. المشكل العربي معقد، فبناء الدولة على أسس إصلاحية تمتزج بالحكم المركزي مع التنمية الشاملة لم يتحقق، ولعل طبقة المفكرين والمثقفين الذين توزعوا بين التيارات والأحزاب، أو خلف سلطات لا تراعي حسابات المستقبل في بناء هيكل دولة متطورة، ساهمت بشكل كبير في تعقيد الأزمة وتوزيع دوائر الولاء، والدليل أن المثقفين العرب بعد زوال الاتحاد السوفياتي وقيام ثورة الخميني، انجرّوا لها بزعم أنها ستحقق الوحدة الكونية التي فشلت فيها الشيوعية، ونفس الأمر عندما نجد أن أي شخصية أو نظام يطرح العداء للغرب نجد فيه مَثلنا الأعلى، حتى لو كان في الدول المتقدمة بالقارتين الأوروبية والأمريكية، ما يفيد تجربتنا السياسية والاقتصادية .. والتعلق بالنموذج المجهول ليس مشكلة أيدلوجية، وإنما المشكل في خلق انتماء لا يتوافق مع طبيعة المجتمع العربي الذي فقد خصوصيته بخلق نموذجه الخاص.. المنتدى سيطرح العلاقات العربية، ويدخل في بيئة كل نظام يناقش أسباب الفشل التي تلاحقه، وموقفنا من العالم بأجنحته المختلفة، وفيما إذا كان لنا مشروع طويل يحقق الأدنى من المطالب لتكون البدايات في تأسيس عمل قُطري ثم قومي، لكن المبشرين بعصر قادم، لا أقول يتجاهلون الواقع وتراكم قضاياه، وإنما بالأسباب التي تتالت علينا، وصرنا نعيش الهزيمة في داخلنا، والتي تحولت إلى يأس طويل من نجاح أي إصلاح، والتاريخ يترجم لنا تسلسل هذه التعقيدات في مجتمعنا العربي، فمنذ داحس والغبراء فإن الذين تقاتلوا في الخيام، ولدو البديل الذي يتحارب من بيت لبيت، ومن شارع لآخر، وبنفس الأفكار، مع تغيّر في الأسلحة وحجم الدمار..