في العالم الثنائي القطبية الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية ظلت الحرب الباردة محتدمة بين المعسكرين، وكانت احتمالات تحولها الى حرب ساخنة نووية مدمرة للبشرية احتمالات ضئيلة أو حتى معدومة، وقد ظلت خارطة يالطا لتقاسم النفوذ العالمي معتمدة رغم الصراعات والتجاذبات في اطار الحرب الباردة. في ظل النظام العالمي الجديد كان هنالك إقرار ضمني بقطب احادي وقوة عظمى وحيدة، لكن الاندفاعة الأمريكية العسكرية لفرض الهيمنة بالقوة الحربية جوبهت بمقاومة ابتداء في البلدان التي تم غزوها، وتم رفض العدوان ابتداء في منطقتنا وفي كل العالم وصولا الى ازمة القوقاز الراهنة التي قد تقود تداعياتها الى حرب نووية مدمرة تبدو احتمالات انفجارها بين امريكا وروسيا اكثر من احتمالات وقوع حرب في ايام الحرب الباردة، ليس لأن قواعد اللعبة ألغيت ولا ان خطوط يالطا مُسحت ولا لأن موازين القوة العسكرية متساوية، فبرغم الاقرار بالتفوق العسكري والتكنولوجي لأمريكا فان الواضح ان روسيا لن تتردد دفاعا عن وجودها في خوض حرب نووية مدمرة مهما يكن الثمن أو تكن النتائج. وعندما يقول الرئيس الروسي ميدفيدف ان روسيا تدافع عن وجودها، فان ذلك يعني حسب وزير الدفاع الروسي تحذير بولندا بأن روسيا لن تتردد في استخدام السلاح النووي ردا على استفزاز زراعة قواعد للدرع الصاروخي في بولندا، والصراع السياسي حول اوكرانيا لا يقبل كذلك التساهل من قبل روسيا، فالأسطول الروسي سيظل في قاعدة سيفاستوبول. والرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو الموالي لامريكا لم يعد الا صورة خاصة بعد التعديلات التي اتخذها مجلس الوزراء الأوكراني بتحديد صلاحياته وانسحاب وزراء حزبه من الحكومة، وهكذا فان القرار السياسي في اوكرانيا اصبح بيد رئيسة الحكومة يوليا تيموشنكو، لكن امريكا لن تتوقف عن التذكير على جذب اوكرانيا لحلف الاطلسي. وعندما تندفع قطع الاسطول الروسي نحو البحر الكاريبي وتبدأ الترتيبات لاقامة قواعد لروسيا في "فنزويلا" ويجري الحديث عن استعادة روسيا للقواعد العسكرية السوفياتية في كوبا، وكذلك ترحيب الدول اليسارية الست في امريكا اللاتينية باقامة قواعد روسية في الحديقة الخلفية للبيت الابيض، فإن روسيا لن تتردد أيضاً في إقامة قواعد صاروخية لها في كل مكان بما في ذلك احتمالات اقامة قواعد روسية في سوريا وايران، اذا فرضت امريكا المواجهة العسكرية على روسيا والجميع.. لا نبالغ اذا قلنا ان الاجواء توحي بالتحضير لحرب عالمية نووية مدمرة، فأمريكا اقامت حتى اليوم "قاعدة صاروخية في 11بلداً أغلبها في اوروبا وآسيا الوسطى" وتسعى لإقامة 9قواعد صاروخية جديدة ارضية بالاضافة الى قواعد أخرى بحرية، مع حديث عن قواعد على الاقمار الصناعية وتُشغل عبرها، وكما هو معروف فان الاتحاد السوفياتي كان متفوقا تكنولوجيا وعسكريا سابقا في مجال قواعد الدرع الصاروخي، لكن أمريكا حققت تقدما في ظل تباطؤ روسيا في تطوير اسلحتها، الا ان هذا لا يعني انها لا تملك قوة ردع في هذا المجال لا يمكن الاستهانة بها خاصة ان الترسانة النووية الروسية حافظت على تطورها.. وأرجو ان لا يفهم من كلامي ان أمريكا وروسيا لا تقدّران عواقب الامور بالانجرار الى حرب مدمرة فيها نهاية العالم، واذا كانت روسيا مستعدة للمضي في لعبة عض الاصابع الى ما لا نهاية، فانها تدرك جيدا ان الدخول في سباق التسلح مجددا سيكون منهكا للشعب الروسي، الا ان الشعب الروسي اكثر حماسة لحفظ روسيا لماء وجهها وقبول التحدي المصيري وهذا هو رأي اكثر من 90% من الشعب الروسي حسب استطلاعات للرأي العام.. ما نقصد الإشارة اليه هو أن الاندفاعة الأمريكية في الهيمنة على العالم، والافتتان بقوتها العسكرية كأداة لفرض مشروعها الامبراطوري لا بد أن يصطدما بممانعة ورفض ومقاومة كما هي الحال في أفغانستان والعراق، واحتمالات المواجهة مع ايران لكن تطورات المواجهة الأمريكية - الروسية ستكون اخطر، فإذا كانت روسيا قد تخلت عن دورها بقيادة الاتحاد السوفياتي نحو حلمه الامبراطوري ومكانته كقوة عظمى وعن حلمها ودورها القيصري حيث كان لروسيا القيصرية دورها ونفوذها ومكانتها في مجالها الحيوي الآسيوي والاوروبي، فإن ما تطلبه روسيا اليوم هو فقط بعض هذا الدور القيصري المتواضع، وهي غير مستعدة لأن تتحجم وتُهمش في مجالها الإقليمي الحيوي والطبيعي وتعتبر الرد عن حقها ومكانتها ودورها معركة وجود.