بدون شك فإن ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية في الأسواق المالية العالمية وخاصة بالنسبة للمؤسسات المالية الأمريكية يعتبر بحق أزمة مالية كبيرة غير مسبوقة. صحيح أن الأوضاع المالية في أمريكا لم تكن على ما يرام نظراً للاختلالات المالية الداخلية والخارجية الكبيرة للاقتصاد الأمريكي، إلا أن الأمر أخذ يزداد سوءاً مع تفشي أزمة الرهن العقاري التي أخذت تداعياتها تنذر بعواقب جسيمة. إن أزمة الرهن العقاري بدأت تتكشف منذ صيف العام الماضي عندما أصبح من المؤكد أن القروض العقارية ذات الجدارة الائتمانية الضعيفة (subprime) أصبحت غير قابلة للتحصيل. وحيث أن هذه القروض قد تم تسويقها إلى عدد كبير من المؤسسات المالية في شكل سندات ومنتجات مالية معقدة فإن مشكلة هذه القروض أصبحت تمس الأوضاع المالية لكثير من المؤسسات الأمريكية وغيرها في بعض دول العالم. وقد شهدنا مع بداية هذا العام التأثيرات الأولية للأزمة ممثلة في الخسائر الكبيرة التي تكبدتها كبرى المؤسسات المصرفية مثل مجموعة ستي بنك وميريل لنش وغيرها. كذلك وجدنا بأن تأثيرات الأزمة تصل إلى أوروبا وبريطانيا على وجه الخصوص على اثر تعرض مصرف نورثرن روك البريطاني إلى مشكلة كبيرة الأمر الذي اضطر السلطات البريطانية إلى التدخل لإنقاذه من خلال التأميم والامتلاك. تفاقمت بعدها الأزمة ولم تستطع مؤسسات مالية كثيرة الصمود حيث انهار بنك بير استيرنز الأمريكي مما اضطر السلطات الأمريكية للايعاز إلى مؤسسة استثمارية أخرى (ج. ب. مورغن) لانقاذه. واستمر هذا المسلسل من التعثر لمؤسسات مالية كبيرة الواحدة تلو الأخرى بدءاً بأكبر مؤسسة أمريكية متخصصة في تمويل الإسكان (F.M.F.M.) مروراً بإفلاس ليمن براذرز وانتهاءً بأكبر مؤسسة تأمين أمركية (AIG) التي لم تتحمل السلطات الأمريكية تركها تفلس فعملت على منحها تسهيلات مالية بمبلغ 85مليار دولار عسى أن ينقذها ذلك من الانهيار. وقد ساد على أثر هذه الانهيارات المتتالية كثير من الذعر والهلع في الأوساط المالية وفي أوساط المستثمرين في أمريكا وفي العالم الأمر الذي دفع غالبيتهم إلى بيع أسهمهم فيما تبقى من مؤسسات، وبغض النظر فيما اذا كانت هذه المؤسسات تعاني من مشاكل أم لا. وقد تعرض نتيجة لهذا الهلع اسهم ما تبقى من المصارف الأمريكية الكبيرة مثل مورغن ستانلي وغولمن ساكس إلى ضغوط كبيرة تكاد أن تؤدي بهم إلى نفس المصير. لا شك أن فداحة هذه الأزمة سوف تعجل بالتأكيد من مراجعة واصلاح القطاع المالي الأمريكي والتفكير جدياً في إعادة النظر في كثير من الممارسات التي كانت وراء هذه الأزمة. وإلى أن تتمكن السلطات المعنية من وضع التشريعات اللازمة لمعالجة أسباب هذه الأزمة، فإن الحكومة الأمريكية تتجه حسبما يبدو وعلى عجل إلى إنشاء مؤسسة (RTC) تشتري من خلالها الأصول المتعثرة وتبيعها فيما بعد عند تحسن الظروف على غرار ما تم في الثمانيات. كذلك تتجه السلطات إلى الحد من المضاربات على اسهم المؤسسات المستهدفة من خلال منع بعض التعاملات مثل البيع على المكشوف وغيرها. وبالطبع فإن مثل هذا التوجه يثير تساؤلات كثيرة حول مدى انسجام مثل هذه الإجراءات مع فلسفة الاقتصاد الحر إلا أن السلطات حسبما يبدو تعمل في هذه الظروف وفقاً لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وبغض النظر عن مدى جدوى هذه الإجراءات إلا أن التركيز يجب أن ينصب على جذور المشكلة بشكل يسمح بإجراء إصلاحات للممارسات المتبعة حتى الآن تفاديا لتفاقم هذه الأزمة وتجنباً لتكرارها في المستقبل، ليس في أمريكا فقط ولكن في بقية دول العالم. إن أهم الدروس التي يمكن استنتاجها من هذه الأزمة على سبيل المثال لا الحصر تتلخص في التالي: أولاً: عدم الاستهانة أبداً بأهمية التقييم السليم لدرجة المخاطر. إن أهم أسباب هذه الأزمة كما نتذكر هو التورط في مشكلة قروض الرهن العقاري التي نتجت عن الاستخفاف بالمبادىء الأساسية في إدارة المخاطر كتوخي الحذر والحرص على توفر الجدارة الائتمانية كشرط رئيسي للإقراض وغيره. ثانياً: ضرورة عدم السماح بنسب عالية للمديونية في المراكز المالية للمؤسسات أو صناديق الاستثمار. إن المديونية أصبحت في الاقتصاد الأمريكي حسبما يبدو عملية إدمان سواء على صعيد الاقتصاد ككل أو على صعيد الأفراد أو المؤسسات التي وصلت المديونية في بعضها إلى 30ضعفاً. ثالثاً: ضرورة الحذر من المبالغة في التعامل بالمنتجات المالية المعقدة مثل المشتقات وغيرها. إن الاشكالية التي نتجت عن هذا النوع من المنتجات ليس فقط لكون كثير من المتعاملين بها لا يفهمون ولا يقدرون درجة خطورة هذه المنتجات بل لكونها كذلك تصل في بعض الحالات إلى مستويات خارجة عن السيطرة. رابعاً: الحاجة إلى مزيد من الإفصاح والشفافية. كنا نعتقد بأن نقص الشفافية هي من سمات الدول المتخلفة وإذا بنا نكتشف من خلال هذه الأزمة بأن ضعف مستوى الشفافية هو أخطر لدى الاقتصاديات المتقدمة حيث إلى أن وقعت هذه الكارثة والسلطات الرقابية ليست كما يبدو تماماً على علم بكامل التزامات ومديونيات المؤسسات المالية. خامساً: ضرورة أن تعكس ميزانيات المؤسسات جميع التزاماتها حيث أن تمويل حجم متزايد من أنشطة المؤسسات من خارج الميزانية من شأنه عدم كشف الحجم الحقيقي للمشاكل التي تتعرض لها المؤسسات الأمر الذي لا يسمح بالتحكم بها أو معالجتها. هناك ممارسات أخرى تخضع الآن على أثر ما حصل إلى تساؤلات ومراجعات نأمل بأن تساعد على تصحيح وضع وممارسات القطاع المالي في أمريكا وفي دول العالم. أما على صعيد المنطقة العربية بشكل عام ودول الخليج بشكل خاص فنأمل كذلك بأن نخرج من هذه الأزمة بظروف صحية حيث أنه وإن كنا غير مرتبطين مباشرة بهذه الأزمة إلا أن انعكاساتها حسبما يبدو من شأنها أن تساعد اقتصاديات المنطقة على الأقل في المجالات الرئيسة التالية: أولاً: الاحتمال الأكبر لهذه الأزمة أن تؤدي إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي وبالتالي خفض الطلب على النفط الأمر الذي من شأنه تخفيف الارتفاعات الشاهقة لأسعار النفط لمستويات معقولة ولمصلحة الاقتصاد العالمي واقتصاد المنطقة على حد سواء. ثانياً: الأزمة الحالية بدأت تخفف من مستويات السيولة المفرطة على صعيد العالم الأمر الذي كان وراء زيادة معدلات الائتمان ومبالغة كبيرة في الاقتراض والمديونية. كذلك على صعيد المنطقة التي أدت فيها السيولة الكبيرة إلى ارتفاعات كبيرة في الأسعار ومعدلات التضخم وتشجيع التفكير في قيام عدد كبير من المشاريع أدت إلى الضغط على الطلب على المواد الأولية ومواد البناء مما رفع أسعارها إلى درجة كبيرة جداً أضر بقدرة غالبية الأفراد ذوي الإمكانيات المحدودة والمتواضعة. ثالثاً: إن انخفاض وتيرة معدلات السيولة المتوفرة والمترتبة على هذه الأزمة من شأنه المساعدة من ناحية على التخفيف من سخونة الاقتصاد والحد من ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم العالية. كذلك من ناحية أخرى فإن انخفاض مستويات السيولة من شأنه تحسين إدارة المخاطر وزيادة الحرص والحذر في منح الائتمان وفي ذلك حماية للمؤسسات المقرضة بشكل خاص والاقتصاد بشكل عام. رابعاً: لا يجب أن يتبادر للذهن بأن نقص السيولة التي تعاني منها الاقتصاديات الغربية التي تعيش هذه الأزمة هي بالضرورة نفس المشكلة التي تعاني منها اقتصاديات المنطقة حيث لا يبدو بأن اقتصاديات المنطقة تعاني من نقص سيولة بل قد يكون العكس هو الصحيح. يبقى بالطبع السؤال لماذا إذاً انخفاض بورصات المنطقة؟ أولاً: لا يبدو بأن هناك علاقة مباشرة بين الأزمة المالية العالمية وبورصات المنطقة حيث أن الشركات المدرجة في بورصات المنطقة ليس لها علاقة بالمؤسسات الغربية التي تعيش هذه الأزمة. هذا كما أن الوضع المالي لمؤسساتنا حتى الآن لا يشير إلى أية جوانب ضعف تبرر هذا القلق أو التخوف. كذلك لا نعتقد بأن قرار بعض المحافظ الأجنبية البيع لتغطية مراكزهم في مناطق أخرى هو السبب الرئيسي لاضطراب بورصات المنطقة. في اعتقادنا أن الأمر يرجع إلى التخوف من إمكانية انسحاب ما يحصل في العالم على أوضاعنا وهذا التخوف قد يكون مبرراً انطلاقاً من كون هذه الأزمة قد تسبب كساداً أو على الأقل تراجع النشاط الاقتصادي على صعيد العالم الأمر الذي من شأنه خفض الطلب على النفط الذي أسعاره تدنت بالفعل بشكل كبير من 147دولارا إلى حوالي 90دولارا للبرميل خلال فترة وجيزة جداً. وبالطبع إذا استمر هذا الانخفاض فقد يؤثر على إيرادات المنطقة وبالتالي قدرة المنطقة على الاستمرار في تمويل كثير من المشاريع التي تعتمد عليها الشركات المدرجة في البورصة. خلاصة القول أن الأزمة المالية التي يتعرض لها حالياً القطاع المالي الأمريكي بشكل خاص سوف تؤدي بدون شك إلى مراجعة كبيرة وإعادة النظر في الممارسات المالية التي اعتبرت حتى إلى وقت نشوب هذه الأزمة من المسلمات المستقرة في الصناعة المالية والمصرفية وقد تؤدي نتائج هذه الأزمة إلى إصلاحات هامة من شأنها تصحيح مسار الرأسمالية وسياسة الاقتصاد الحر بشكل يوفر للاقتصاد العالمي استقراراً مالياً واقتصادياً أفضل. هذا كما نأمل أن تساعد نتائج هذه الأزمة في التخفيف من سخونة اقتصاديات المنطقة وتوفر البيئة الاقتصادية الصحية التي تجنب اقتصاديات المنطقة الهزات وترسخ لنمو وتطور اقتصادي قابل للاستمرار. @ المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي