كل شيء تغير في الأدب، عندما تطورت وسائل الطباعة الورقية، تحركت الحياة داخل الكتابة وفق اسلوب الانتشار الذي يربط جهات العالم، ويقرّب الأكوان ونمط العيش والعواطف والبيئات. ولكن وظيفة الخيال بقيت هي الميدان الوحيد الذي يعكس المدهش والغريب والمختلف في تلك البيئات. اليوم يتحرك العقل المبدع الى مناطق أبعد من خياله المجرد، الى أكوان خارج النفس وداخل الموهبة ومهارة الإفادة من عقول عليا، او عقول مفارقة او عقول آلية في هذا الحيز الذي يسمى حيز الإنترنيت. لم يدخل العرب عصر الرواية الانترنيتية، أو ما أسموه الرواية الرقمية، فهي اليوم مجرد محاولات لا تثير الانتباه. ولكن كل الدلائل تشير الى أفول عصر الورق ومروياته، أفول عصرنا نحن الكائنات التي أدمنت على الكتاب وسيلة للاستمتاع بكل شيء: كتب على أرففنا، وفوق طاولاتنا وفي الأدراج، وقرب الأسرّة وداخل الحقائب، وفي كل زاوية من حياتنا الورقية. لا يمكننا نحن الذين احتجزنا في هذا الجزء من الهواية، تخيل أنفسنا محبوسين امام الشاشة ساعات طويلة كي نقرأ أدبا أو فكرا. جزء من الإعراض عن الأدب اليوم سببه الانترنيت وسيلة تسلية وإفساد وإفادة، وبعض الأسباب، يرجع الى التلفزيون. ولكن الانترنيت أبقى لعشاق الرواية هامشا معينا، فهو اليوم الرواية ذاتها، حكاية الحياة الخيالية التي يدخلها الناس جميعا ويشاركون في صناعة رواياتهم من خلالها. قصص الحب والصداقات والدموع التي يذرفها الشاب من أجل كائن لم يلتقوه سوى على الشاشة. زيجات تعقد يذهب الناس فيها من قارة الى قارة، كي يجربوا سعادات صنعتها حياة الانترنيت الافتراضية. لغات جديدة تتشكل في الكلام والكتابة، وها نحن نشهد العربية وهي تتكسر أمامنا على الشاشة، مثل إناء خزف رخيص. عربيتنا الجميلة، آخر حصوننا، وكل مواهب قومنا، وزبدة عقولهم ووصاياهم التي تباهوا بها على العالم، وفاخروا ونابزوا وتقاتلوا بها ومن أجلها. ها نحن نودعها ونودع معها عصرنا الورقي. حركات واحزاب سياسية تتشكل وتنشط وتنتشر على الانترنيت في بلداننا وبين جالياتنا، ويذهب الناس بدعاواها وأناشيدها الى الموت، الى الانتحار والشهادة. نحن أيضا ندخل عصرنا الرقمي، ولكن بشروطنا نحن. وهذا هو سر الانترنيت وحده، فهو أكبر من صانعيه، وأعتى من جبروت حضارتهم. الانترنيت اليوم هو مصيدة، وسيلة، خطوة، عتبة، يتجه الناس فيها الى مخيلة تعبر الخيال ذاته. لا يدرك الذي يجلس ساعات أمام الإنترنيت، سوى أنه تورط بما لا يستطيع الهروب منه، ولا يستطيع الخروج إلاّ أمثالنا نحن الكائنات الورقية التي في طريقها الى الانقراض. لا لأننا محصنون من اغواء شاشته، بل لأننا لا نريد الذهاب معه الى النهاية، لأننا واعون خطورته على زمننا الورقي، فنضع أمام أنفسنا العوائق: أذى العين، وتعب الظهر، ومضيعة الوقت. وهكذا نعود الى كتابنا الأثير، نتلمسه كي نتلمس من خلاله وجودنا، ماضينا الذي لا نريد خيانته. نحن نشهد بأم أعيننا انهيار عالمنا الأول، فنقاوم بكل الوسائل، نقاوم الإنسان الرقمي والإنسان الافتراضي داخلنا، ديمقراطية الوجود الالكتروني وفضاءاتها الحرة. نقاوم ما ينبغي ان نسعى من أجله: مستقبل وجودنا التاريخي المهدد بالإمحاء، فما من كتابة ستبقى في ذاكرة الناس، سوى تلك التي تجد لها مطرحا على النشر الالكتروني، سوى تلك الكتابة التي تتفق وقواعد لعبته. سيرغمنا الزمن على اتقان هذه اللعبة، وسنتعلم حرفة "اللنكات" وندخل في متاهات الهايبرتكست، أو عالم الوسائط المتعددة (المولتي ميديا). سنتعلم كيف نضع الصورة بدل الكلمة، ونحولها الى سمعبصرية، او نرجع الكلمة الى صورتها الاولى، مثلما فعل أجداد البشر عندما اخترعوا الكتابة. وربما سنرجع الى الكتابة الصورية التي تكاد تندثر في الصين واليابان وتلك الشعوب التي تبدو الحياة الرقمية جزءا من طبيعة عقولها ومعتقداتها، أو هكذا يخيل الينا نحن الذين سرنا طويلا في صحراء غربتنا عن العالم الحديث، فالشرق وحده يشعرنا بأمان الانقلاب على تلك الغربة. مصانع الكومبيوتر تنتشر في اليابان والصين وتايوان، والكثير من عقول واضعي البرامج (المبرمجين) التي يشتريها الغرب اليوم هي من الهند. أوصى نهرو وهو يخطو خطوته نحو علاج أمراض بلده، بجامعات يتعلم فيها الناس الرياضيات. ضحك عليه كتّاب الاعمدة الصحفية، وقالوا انه حالم كبير تجاوز ما تريده الهند وهو الطعام وحده. لم يتعرف العالم سوى على مجاعات الهند وكوارثها وأفلامها التي تتنقل بين مشهد رقص وبكاء وتهريج. كان نهرو قد حزر مستقبل العالم. ولكننا نحن الكائنات الورقية لن نقر بهزيمتنا، سنهرع الى الانترنيت، وننقر على مادة البحث عن احصاءات السكان في الهند، وسنهز رأسنا على طريقتهم ونقول: ما فائدة "المبرمج" وهو لا يعرف كيف يزرع حقلا، ويرعى بقرة. سنجد العوائق كلها، كيلا نعترف بمباهج عالم يجري خلف ظهورنا.