الكلام مثل الريح، كلاهما في مهب الزوال فلا يتبقى شيء، ضجيج للريح كضجيج الكلام، وعصف للكلام كعصف الريح، وتبدد للاثنين فور الانتهاء في أدراج لا نعرف أين تكون.. هل بوسعنا أن نركض خلف كلمة سمعناها، نطاردها لنمسك بها؟ وإن أحكمنا قبضة على ظلها - أو صداها - هل تكون قد أحكمت إلا على قبض كقبض الريح؟ نحن مخلوقات متكلمة، هكذا بالفطرة، ولا أحد ولا شيء يمنع اللسان من شد عضلاته أو بسطها لممارسة وظيفته، ربما دون حساب.. بعد أن كانت البشرية قد أنفقت ملايين السنين على الأرض دون أن تجد وسيلة إلى التواصل غير إشارات حركية تنذر بخطر وشيك، أو تعد بخير قادم مع العائدين من رحلة الصيد، اهتدى الإنسان - بفضل من الله - إلى الصوت، زعيق أو صراخ أو همهمات أو زمجرة كأصوات الحيوان، وفي طور آخر انتظمت الإشارات الصوتية في رموز كلية كالتأتأة والثأثأة والكأكأة، ثم في مقاطع صوتية نضجت في الحروف، ثم في نظام صوتي شكل معجم للكلام في كل لغة. أعني أن الأساس في الكلام أن يكون جسرا من دماغ إلى دماغ، ينقل الرغبة والفكرة من رأس إلى رأس ويمهد سبيلا للتواصل كي تأتلف الجماعات، وهي وظيفة إنسانية سامية ونبيلة. بعد طول التجربة ونضجها أخذ الكلام من البشر أخلاقهم، كلام رقيق وجميل حمل من صاحبه أو صاحبته جمال الروح، وكلام إجرامي فاجر، أخذ من أخلاق صاحبه كل شرورها، مع أن كلا النوعين مصنوع من نفس حروف اللغة الواحدة نفس الرموز الصوتية بعد أن ارتبك ترتيبها.. ولهذا قالوا إنك لا تعرف المرء حتى يتكلم.. عرفت دروب الكلام مسالك جديدة حددت له مستوياته من الوضوح والغموض، الرموز والتورية والاستعارة والكناية، والتلويح والتلميح، والوعيد والتهديد بأشكالهما غير المباشرة، مع أن وضوح الرسالة هو الأساس في التوصيل. الحمد لله أن الكلام كالريح لا يبقى، وإلا لو كان له وجود مادي ماثل، كالحجارة، لأغلقت الدنيا في وجوهنا بحجارة الكلام كل مسالكها، مجسمات كلامية لا تترك شبرا نسير فوقه طلبا لرزق أو راحة. حين دخل الكلام أداة للدبلوماسية والسياسة عرف كل ألوان الكذب والخداع، وحين دخل أداة في العلاقات الاجتماعية تسلح بالنفاق والمداهنة، وحين شكل عصبا للإعلام توسل بكل أساليب الهدهدة والطمأنة وإراحة المتلهفين بوعود تبقى معلقة بغد لا يجيء .. أعجب من وظائف وأعمال لا توفر بضاعة أو معطى ماديا تمسك به اليد، فقط تتكلم، هل من المعقول أن يقضي إنسان أربعين عاما هي مدة وظيفته لا يفعل شيئا الا أن يتكلم ويقبض ثمناً للكلام؟ الخطباء والكُتَّاب والمحامون والمذيعون والصحفيون والمدرسون والساسة وكثيرون غيرهم، بضاعتهم الكلام، ولا بأس فهؤلاء هم الذين يلخصون التجربة الإنسانية ويقدمونها نصيحة أو هداية أو درسا أو أساسا لمعرفة، فماذا لو تسللت إلى هذه الوظائف بعض أخلاق البشر؟ بصراحة حتى الآن لا أعرف وعداً صدق غير "وعد بلفور"! إذا أردت أن تعرف ما يفعله واحد من تجار الكلام فاخفض صوت التليفزيون تماما وتأمل حركاته وحركات فمه بلا صوت - بإلغاء الكلام - هل ترى فيه أكثر من مهرج؟ الحمد لله أن الكلام مثل الرياح، يأسرك الناصح بنصيحته وهو يتكلم مستعينا بوسائل الدراما، فما أن يكف حتى تذهب النصيحة أدراجها، منه ومنك معاً، خاصة إذا لم يكن مخلصا في الاسداء مثلما أنت لست مخلصا في الإصغاء، واحدة بواحدة..وإنما من هذه الحقيقة لخص الحس الشعبي المسألة، فقالوا "كلام في الهوا" وقالوا "كلام الليل مدهون بزبدة" وقالوا "الكلام ببلاش". نصيحة : في اللحظة التي أنهيت كتابة هذا الكلام كانت قد أخذته الريح، فلماذا لا تتركه لها وقد فرغت من القراءة؟ أو ارسل لي بدورك ما قد أطلقه لها.