في كل عام يطل علينا هذا الضيف العزيز الكريم، يزورنا سيد الشهور، شهر الجود والقرآن، يجدد ذكرياتي معه، ذكريات رمضانية جميلة، يحلو لي أن استرجعها لأعود بذاكرتي لعهد الطفولة وأيام الشقاوة. عندما كنا نتفاخر بأننا كبرنا وبدأنا الصيام في حين كنا نغافل والدتي - رحمها الله - للشرب من الفيمتو أو تذوق اللقيمات أو اختطاف إحدى حبات السنبوسة.. كنا نبتهج بهذه الأفعال لشعورنا بأنها لا ترانا ولكن في الحقيقة أنها كانت تتعمد أن تغفل عنا كنوع من التعويد على الامتناع عن الطعام لمدة لا تتجاوز منتصف النهار لاقتناعها أنه لم يفرض علينا الصيام بعد. كان لرمضان مأكولاته الخاصة التي نفتقدها طوال العام لذا كنا كأطفال ننتظره بفارغ الصبر أما الكبار فكانوا يشعرون بلذة هذه المأكولات في هذا الشهر لارتباطها بشهر الصوم فقط. ومن مظاهره القديمة ما كان بين الجيران من التواصل والتآلف وتبادل المأكولات الشهية، حيث كان الجميع يحرص على إرسال أطفالهم قبل الإفطار بدقائق لتبادل طبق اليوم، كنوع من تعويد الأطفال على البذل والسخاء والإحساس بالجار، وبالفعل كان لهذه اللفتات البسيطة أثر في تكوين شخصية الأبناء. ومدفع رمضان كنا نتسابق لسماعه وذلك بالصعود على سطح المنزل لإخبار والدينا بأن الإفطار قد حان على الرغم من سماعهما آذان المغرب إلا أن صوته كان من المظاهر المحببة التي لا تزورنا إلا في رمضان. أما الطقوس الاجتماعية فقد كانت مميزة بين الأهل والأصدقاء فكان ليل رمضان يطول بهذه السهرات المفعمة بالتواصل والتحابب والتآزر على الرغم من وجود التلفاز إلا أن الناس لم تكن تعطيه تلك الأهمية في رمضان. حتى إذا ما جاء مودعاً شهر الرحمة والمغفرة، فإننا كنا نشارك الوالد - حفظه الله - في تقسيم زكاة الفطر وتوزيعها لندرك بهذه المشاركة معنى الزكاة. وتتوالى الأعوام ونكبر.. وتتسارع عجلة الزمان ليزورنا اليوم رمضان وليس لنا منه سوى الذكريات، ذكريات وذكريات وما أجمل الذكريات في كنف الوالدين.. ذكريات استرجعها وأشعر معها بجمال براءة الطفولة التي كنا نعيشها ويفتقدها أبناؤنا اليوم.. فقد تغيرت معاني رمضان الجليلة ومظاهره الروحانية، حتى مأكولاته الخاصة أصبحنا نراها في الأسواق طوال العام فلم تعد لها تلك النكهة المميزة وصرنا نبالغ في إعداد الأطباق ونتفنن في تنويع المأكولات الشهية حتى ان بعض النساء تستعين بخادمة أخرى في رمضان لإعداد الطعام فقط وكأننا لا نأكل قبل رمضان ولا بعده.. أما التواصل بين الجيران في هذا الشهر مثل بقية الأشهر يقتله البرود والواصل منهم يرسل طبق الإفطار في معية خادمته التي قد لا تكون مسلمة. ومدفع الإفطار على الرغم من عدم اندثاره الآن إلا أن ضجيج المدينة لا يساعدنا على الإنصات لسماعه ولا يعرف أطفالنا ما هو مدفع رمضان. وأخيراً.. التلفاز هذا الجهاز الذي يبث سموماً ليلاً ونهاراً للصغار قبل الكبار، أصبح من أهم سمات رمضان وعلى وجه الخصوص هذا العام فالقنوات بالغت في الدعاية للمسلسلات والتمثيليات بصورة أفقدت الشهر روحانيته، وغزت التقنية شهر الصوم، فعلى سبيل المثال تحديد المساجد التي ستقام فيها صلاة التراويح والتهجد تصلك عبر البريد الإلكتروني ومحدد فيها اسم الإمام ومميزاته وكذلك كروكي للمسجد، أما آخر تقنيات شعائرنا الروحانية في هذا الشهر هو برنامج حاسوبي تتصفح القرآن من خلاله على الكمبيوتر وكأنه بين يديك. كل شيء في رمضان تغير إلا سهر لياليه، فنحن شعب ننظر لهذا الشهر على أن نهاره للنوم والراحة وليله للسهر وإن كنا بالأمس نقضيه في سهرات عائلية يلفها دفء المشاعر. والأحاديث الشيقة الودية فاليوم تتنوع سهرة العائلة فالأبناء في المقاهي والآباء أمام القنوات التلفازية في الاستراحات، أما النساء تتزاحم على الأسواق وكأن الأسواق مغلقة قبل رمضان وستُغلق بعده. دعاء اللهم لك الحمد أن بلغتنا رمضان.. اللهم أعنا على صيامه وقيامه واجعلنا من عتقائه واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات وكل عام وأنت بخير قارئي العزيز. *جامعة الرياض للبنات