البشر منذ الأزل ينقسمون في معيشتهم إلى غني وفقير ومتوسط الحال طبقاً لمصادر الدخل والمهارة والجد والاجتهاد في أغلب الأحوال والدول المختلفة ينطبق عليها المعيار نفسه فهناك دول غنية وهناك دول فقيرة حسب ما يتوفر في كل منها من مصادر للثروات الطبيعية واستغلالها بحكمة وروية وظل هذا هو الوضع القائم لمئات السنين لذلك تركزت التجمعات البشرية في المناطق الخصبة والمياه الوفيرة. ومنذ الثورة الصناعية في أوروبا بدأ البحث والتنقيب عن الثروات الطبيعية الدفينة مثل المعادن والفحم والبترول مما أوجد المدنية العصرية بصورة تدريجية حيث أدى البحث والتطوير إلى ما نشاهده اليوم في جميع مجالات العلوم والتقنية من تطور وتقدم. وقد أدى التقدم في مجال العلوم والتقنية إلى ألا ينحصر الغنى في الدول ذات المصادر الطبيعية للثروة فقط، فقد أصبحت هناك دول كثيرة مصادرها الطبيعية تكاد تكون معدومة مثل تايوان واليابان وإسرائيل وغيرها كثير. ومع ذلك أصبحت بفضل التفكير والتخطيط السليم والجهد والإصرار من أكبر دول العالم من حيث القوة الاقتصادية والتقدم الاجتماعي، وذلك كله بفضل الاستثمار في مجال التقنية المتقدمة. كما أن هاجساً جديداً قد طرأ على مجريات الأمور المالية وهي محاولة الدول الواعية عدم الركون إلى مصدر واحد للدخل لأنه قد يكون عرضة للنضوب أو الحصار أو الاستغناء عنه إلى ما هو أفضل منه وربما أرخص منه من مصادر الطاقة المتجددة، وكما هو معلوم فإن الدول المتقدمة تسعى ليلاً ونهاراً إلى إيجاد مصادر للطاقة البديلة عن البترول وذلك لكي تبقى على قمة الهرم من ناحية وتحجيم دور الدول المنتجة للنفط من ناحية أخرى وما خطاب الاتحاد للرئيس الأمريكي بل كلينتون في عام 1999م إلا واحد من الأدلة على ذلك حيث أعلن دعمه وتشجيعه لمشروع إنتاج الميثانول من المخلفات البلدية والمنتوجات الزراعية والذي كان مخططاً له أن يفي بما مقداره 10% من حاجة الولاياتالمتحدة من الوقود ولكنهم تجاوزوا تلك النسبة الآن وأصبح طموحهم أكبر حيث أعلن الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش الابن عن أن أمريكا سوف تستغني عن بترول الشرق الأوسط بحلول عام (2025)م وذلك بالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والصديقة للبيئة ناهك عن أن المصادر الأخرى للطاقة التي يجري تطويرها ليس لها حصر، فكل يوم نسمع عن جديد مثل استخلاص الهيدروجين من الماء والتوسع في استخدام طاقة الالتحام النووي والاستفادة من طاقة الرياح والحرارة الجوفية للأرض والأمواج البحرية وغيرها مما لم يعلن عنه، لذلك فإن الاستثمار في مجال التقنية المتقدمة يعتبر المخرج الجديد والمعول عليه في مجال تنويع مصادر الدخل خصوصاً في دولة صحراوية مثل المملكة لأنه مصدرغير ناضب بل متجدد ويتوسع مع استمرار البحث والتطوير لذلك اهتمت الدول المتقدمة بدعم الاستثمار في مجال التقنية المتقدمة ودعمت كل من تلك الدول البحث والتطوير الصناعي المدني بشكل عام. والتقنية المتقدمة بشكل خاص بمبالغ ضخمة تصل إلى 3% في اليابان و2.5% في الولاياتالمتحدةالأمريكية و2.4% في فرنسا و2.3% في إسرائيل من الناتج القومي الإجمالي لكل منها. وكل دولة من الدول السابقة الذكر تنفق على دعم البحث والتطوير أكثر ب 20مرة من متوسط ما تنفقه الدول العربية مجتمعة على مجال البحث والتطوير. وهذه النسب من الناتج القومي الإجمالي المخصصة للصرف على البحث والتطوير في تزايد مستمر حيث وصلت في بعض الدول إلى حوالي 5% من ناتجها الإجمالي. وغني عن القول إن الدعم لا يقتصر على الدولة فقط فجميع الشركات الصناعية والتقنية تنفق بسخاء على مشاريع البحث والتطوير الخاصة بها بنسبة تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 15% من إجمالي مبيعاتها. ودعم البحث في المجال الأكاديمي يعتبر دعامة أساسية لاستمرار اتصال الأستاذ الجامعي بمستجدات التقنية في تخصصه لذلك نجد أن مبالغ ضخمة تنفق على البحوث في الجامعات في جميع الدول المتقدمة وذلك لربطها بعجلة الصناعة والتقنية المتجددة. وخلق تكامل بين الصناعة والجامعات. أما في الميدان الداخلي فإن حكومتنا الرشيدة لم تغفل عن العمل على تعدد مصادر الدخل فقد بدأت ومنذ أكثر من خمس عشرة سنة بالأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى وجود مصادر أخرى للدخل غير البترول حتى أصبحت نسبة دخل الفعاليات الاقتصادية المختلفة من تجارة وزراعة وصناعة تصل إلى 20% من الدخل الإجمالي للدولة وربما تزيد وهي لا تزال تعمل بكل جد وإصرار على إيجاد مصادر دخل بديلة أو مساندة للبترول على الرغم من المعوقات البيروقراطية التي تشكل حجر عثرة أمام تقدمها. وحيث إن الاستثمار في مجال التقنية المتقدمة هو المفتاح الرئيس لتوطين تقنية الخدمات ويعزز ذلك الاهتمام بالبحث والتطوير ويدعمه إعداد الكوادر الوطنية وحيث إن لهذه الثلاث عوامل اليد الطولى في عملية صنع التقدم الذي يجب أن يكون نتيجة طبيعية للاستثمار في مجال التقنية ذلك أن الاستثمار في مجال التقنية المتقدمة هو توطين لتلك التقنية عن طريق فرض الأمر الواقع وذلك يتم من خلال: @ العمل على تهيئة المناخ لإيجاد نهضة تقنية لأن ذلك ضرورة استراتيجية تؤدي إلى النمو الاقتصادي وتعدد مصادر الدخل بالإضافة إلى أهميته في مجال الأمن والدفاع والاكتفاء الذاتي وأبعد من ذلك التصدير لتحقيق مبدأ تعدد مصادر الدخل. @ الاتجاه إلى تحديث التعليم بجميع مراحله العامة والعليا والتركيز على العلوم والتكنولوجيا المتقدمة سوف يوجد كوادر بشرية مؤهلة وتلك العقول المؤهلة هي التي تمثل الثروة الحقيقية ومقياس التقدم لأي دولة من الدول. @ إنشاء مؤسسات مشتركة في مجال البحث والتطوير مع بعض الدول المتقدمة مثل اليابان وأمريكا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى وتشجيع الشركات الصناعية السعودية على إنشاء مختبرات للبحث والتطوير خاصة بها وإقامة شراكة مع الجامعات على غرار ما هو حاصل في الدول المتقدمة. @ تشجيع رأس المال الوطني المحلي والمهاجر والأجنبي على الشراكة وذلك بدعوة وتشجيع الشركات العالمية الرائدة في مجال التقنية المتقدمة مثل شركة مايكروسوفت وغيرها على الاستثمار في المملكة في صناعات متقدمة ومنحها الامتيازات والتسهيلات اللازمة والضرورية، بدلاً من أن نفاجأ بظهورها في دول مجاورة. @ الاستعانة بدعوة بعض المنظمات الدولية مثل اليونسكو والبنك الدولي وغيرها من المنظمات الدولية لدعم مشاريع تنموية في مجال التقنية المتقدمة في المملكة، فعلى سبيل المثال استحدثت منظمة اليونسكو كراسي علمية في الجامعات ومؤسسات البحث والتعليم العالي في أكثر من 97دولة فقيرة وغنية منها دول متقدمة جداً مثل أمريكا واليابان وبريطانيا وفرنسا لكن المملكة ليست واحدة منها على الرغم من أن المملكة من أكبر الدول الداعمة والممولة لتلك المنظمات. وعلى الرغم من توجه الجامعات السعودية لإنشاء كراسي بحث علمية إلا أنها وحتى اللحظة لم نسمع عن توجهها للاستفادة من كراسي اليونسكو التي لها شهرة ومكانة عالمية معروفة. @ تشجيع النشء الجديد على معرفة تقنية العصر مثل أجهزة الحاسب وبرامجه وعلومه بصورة عامة يؤدي إلى التقدم والدليل على ذلك أن بعض الدول الحريصة على التقدم بدأت بمشروع "حاسوب لكل طفل" ويتم بمقتضى ذلك المشروع توزيع أجهزة الحاسوب وبرامجه على الفقراء مجاناً على المدارس بجميع مرحلها وذلك لخلق جيل مؤهل مواكب للعصر ومناسب له. @ مجالات الاستثمار في التقنية المتقدمة المهمة والمربحة على المستوى المدني والعسكري لا حصر لها نذكرها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: أ. الأنظمة النووية والكيميائية والحيوية وأبحاث الطاقة. ب. أنظمة الفضاء والطيران والاستشعار عن بعد. ت. الإلكترونيات وتقنية الدفاع والتسلح وأجهزة وبرامج الحاسب. ث. تقنية التصنيع والمجسات والليزر وأشباه المواصلات والاتصالات والنانو. ج. علوم المواد وأنظمة المعلومات. @ العمل على إنشاء مؤسسات تُعنى بدعم البحث العلمي وتمويل مشاريع الاستثمار في مجال التقنية المتقدمة مقابل نسبة من مبيعات منتجات تلك المشاريع. @ إن إنشاء مراكز تشجيع تحتضن الابتكارات والتقنيات الواعدة وتحويلها إلى منتجات تجارية وتسجيلها في مراكز براءة الاختراع في الداخل والخارج تعتبر من أهم الخطوات التي بادرت جامعة الملك سعود تبنيها والاهتمام بها من خلال وادي الرياض للتقنية المزمع إنشاؤه. @ تصنيف الشركات العاملة في مجال الصناعة وتشجيع تلك التي تعمل في ميدان التقنية المتقدمة ودعمها إلى أن تقف على أقدامها وتثبت وجودها. @ التسويق عامل هام وحاسم في عملية الاستثمار في مجال التقنية وتوطينها ذلك أن كثيراً من الشركات العالمية والمحلية قد خسرت على الرغم من أن منتجاتها كانت ذات جودة عالية وذلك بسبب عدم وجود دعاية ناجحة ومهارات تسويقية كافية وقادرة وصادقة.. نعم إن الاستثمار في مجال التقنية المتقدمة عبارة عن فرض الأمر الواقع ولكنه لن ينجح ما لم تديره وتقوم عليه أيدٍ وعقول وطنية مخلصة ذلك أن العقول المستوردة مصيرها إلى زوال. والله المستعان.