@@ الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة "من جيل الرواد" .. ربما تكون الشاعرة الوحيدة التي تكتب غزلها الجميل بالفصحى وبالعامية.. وفي مهرجان "المتنبي" الذي أحيته بغداد في نحو عام 1979م .. كان غريباً أن يطلب منها الحضور قراءة شعر عامي في "محفل الفصحى" ذاك. أذكر أن القصيدة كانت عن جسر بغداد "المعلق" آخر وأحدث الجسور المشيدة على نهر دجلة وأكثرها تعرضاً للقصف في حروب الخليج وغزو أمريكا.. فهو يبدو في الكرادة وينتهي أمام بوابة القصر الجمهوري.. هناك بيت في القصيدة يقول: (الله يال "معلق" .. كل الجسور للوصل .. وانت للقطع) طبعاً لو أردنا أن نُقيِّم "البيت" على طريق النقد النضالي.. لحملناه دلالة أيديولوجية ثورية كانت تكفي "حينها" لمسحها عن وجه الأرض.. لكن بغداد الثقافة والطرب.. التي تعرف جيداً أن لميعة أبعد ما تكون عن خزعبلات النضال والسياسة.. صفقت للشعر وحفظت الكثير منه ورددت: "كل الجسور للوصل وأنت للقطع" ومن كان - أيامها - يجرؤ على عبور الجسر بسيارته إلا مضطراً أو بحكم موقع العمل والسكن.. ومن النادر أن ترى عابراً راجلاً.. فبعد نهاية الجسر هناك "دوار" بشع .. على يمينه القصر .. وعلى العابر أن يتجه يساراً لمسافة بعيدة تحت رصد العيون وفوهات المدافع والرشاشات الخفيفة.. وعليه أن لا "يدحج" باتجاه البوابة.. وأن يتجاهل وجود الأشخاص الذين يمر بهم.. ومن موقع ووقع المعنى البعيد في بيت شعر "لميعة" يمكن استخلاص معاني ثورية ذات جماليات تتجاوز كل ما جاء في الشعر الثوري "اياه".. غير أن المعنى البسيط للقصيدة.. ومعنى "جغرافي" لا أكثر.. لأن الجسر الذي يربط بين "كرخ" بغداد و"رصافتها" يفترض فيه أن يكون جسراً ل"الوصل" بين حبيبين أحدهما في الكرخ والآخر في الرصافة.. غير أن انفصال المحبين حوله من جسر وصل إلى جسر انقطاع وقطيعة.. العراقي المخضرم يوسف الصائغ تناول موضوع الوصل والقطع بطريقة تحمل الكثير من الرومانسية.. ففي قصيدته استحضر ممر عبور المشاة في شارع الرشيد ووضع أحد جانبي الشارع فتى يحمل وردة وعلى الرصيف الآخر فتاة حالمة وما أن تتوقف حركة السيارات ويعبر المشاة.. حتى نرى الفتى على الرصيف الآخر بيد خالية فيما الفتاة على الجانب الذي عبرت إليه تسير بخيلاء وفي يدها وردة.. فيما الغناء العراقي يحفل بالكثير من الأغنيات الجميلة التي تطرح مواضيع ومعاني قريبة ومتشابهة.. فكوكب حمزة يغني "يمتى تسافر يا قمر واوصيك" وسعدون جبار غنى "يا طيور الطايرة مري بهلي" وحسين نعمة غنى "غريبة الروح لا طيفك يمر بيها". وفاضل عواد غنى "لا خبر لا شفيه لا حامض حلو". والياس خضر "روحي ولا تقلها إشبيك. وكثير جداً من الأغاني التي تجهر بالقطع والاغتراب.. وتطرح مفهوم الوصل على استحياء أو في مواربة لا يكاد يحتملها "ظاهر" المجتمع العراقي المنفتح المندمج والمتعدد العادات والديانات والمذاهب والقوميات.. أما الشعر الفصيح .. فيبدأ الجهر فيه من غزل السياب في الشاعرة لميعة عباس عمارة التي أحبها رغم اختلاف الدين والمستوى الحضاري والطبقة الاجتماعية.. وكان يقول في نحو عام 1963وهو في إحدى مستشفيات لندن يكاد يحتضر: "ذكرتك يا لميعة .. والدجى ثلج وأمطار".. وديوان "منزل الأفنان" يحفل بالكثير عن ال"لميعة".. ومن بين أبناء ذاك الجيل السياب ونازك ولميعة وبلند وغيرهم.. أزعم أن عبدالوهاب البياتي كان أسوأ من كتب شعر الغزل.. وإذا كان معظم شعره يبدو كمن يهم بقذف قارئه بالحجارة.. فإن شعر السنوات الأخيرة من حياته يظل من أجمل وأعذب ما كتب من شعر حديث. غير أن الذي يجب أن نتوقف لنفهمه حقاً.. هو "الهجمة" السياسية والايدلوجية وتنظيراتها النقدية والثقافية.. التي لعبت دوراً سلبياً أدى ل"تجفيف" المنابع العاطفية من عموم الشعر العراقي.. بحيث أصبح الغزل والعاطفة والمشاعر الإنسانية نوع من الترف البرجوازي الذي يجب على الشاعر أن يترفع عنه.. وأزعم أن قارئ الشعر الحديث منذ عام 1949م حتى الآن لن يتمكن من جمع ديوان واحد يحتوي على قصائد لكل هذه الأعداد التي مرت.. على أن يكون ديوان غزل.. أو "شعر صافي" كما يريد البعض أن يقول.. أو مشاعر إنسانية تلهب الوجدان وتحرض على حب الحياة. إنها مفارقة عجيبة في المفاهيم.. وكأن التغزل بالحبيبة يتناقض مع حب الوطن.. فيما حب الوطن يبدأ من الحبيبة.. أو كأنك تقول: - أنا أحب وطني بالطريقة التي تجعله يصلح لأن تعيش حبيبتي سعيدة فيه!! فيما يتغزل الشعر العراقي في الجميل منه بالمنافي والوطن غير المتحقق وغير القابل للتحقيق.. وحتى الآن لا أحد يريد أن يسأل: "لماذا"!!