في طفولتي كان في حارتنا تيس أصيل يتداوله الجيران للمبيت مع أغنامهم. لم أعرف أبداً مالكه الأصلي لأنه في كل ليلة يحل ضيفاً على زريبة مختلفة.. وحين يؤدي مهمته على أكمل وجه - ويخرج في الصباح بمشية مغرورة - يبدأ بمطاردته جار جديد. وظل التيس على هذه الحالة سنين عديدة حتى اختفى ذات يوم بشكل نهائي فعم الحزن في الحارة وسُمع النحيب في حظائر الغنم... واليوم عاد لذاكرتي بعد أن قرأت تصريحاً لشركة "جينوس" البريطانية قالت فيه إنها وقعت صفقة لبيع نطف أصيلة لشركة سعودية. وتتضمن الصفقة قدراً كبيراً من الحيوانات المنوية الخاصة بالثور المعروف باسم "بيكستون شاتل" الذي تصفه الشركة بأفضل ثور في العالم.. والثور بيكستون ساهم - حسب تعبير الشركة - في تحسين نسل آلاف الأبقار حول العالم. وقالت إن قيمة "الجرعة" من حيواناته المنوية تساوي 550دولاراً وانه "ينتج" ما يزيد على 200ألف جرعة كل عام. وثور بهذه الربحية يسهر على خدمته ثلاثة أطباء وأربعة مشرفين وينام في حظيرة (خمسة نجوم) تتم تدفئتها بالمصابيح. اما علفه فمكون من القمح الكندي والذرة الحبشية والسكر المستخرج من (الشمندر). وهو يمضي نهاره مستمعاً إلى موسيقى موزارت وليله مع أجمل بقرات بريطانيا. وهو من الفحولة والأصالة بحيث اكتسب شهرة عالمية وبيعت مقدماً جميع النطف - التي سينتجها في العام القادم! ورغم المسافة التقنية الشاسعة بين تيس الحارة وثور بريطانيا إلا أن الفكرة بحد ذاتها قديمة ومعتمدة منذ الأزل. ففي الماضي كان مربو المواشى يحرصون على اقتناء أفضل الفحول لتحسين نسل مواشيهم ورفع نوعية انتاجهم. ولكن مع تقدم الطب - وظهور وسائل التلقيح الحديثة - لم يعد المزارع بحاجة لحضور الثور ب"صفة شخصية". فقد أصبح بإمكان الثور الأصيل (من متكئه هولندا) تلقيح 3000بقرة في العام. وبدل ان يسافر "بشحمه ولحمه" تسافر نطفه في أنابيب خاصة بحجم السيجار الكوبي الى مناطق مختلفة حول العالم. وحين تصل لوجهتها المطلوبة توضع في أعضاء البقرة أو تلقح مع البويضات بطريقة اصطناعية - قبل أن تزرع في الرحم كي تنمو بصورة طبيعية. وبهذه الطريقة انتشرت سلالات الأبقار الممتازة في العالم (مثل الهولستاين والجيرسي والغرينزي والآيرشاير) وأصبحت أكثر ضخامة وانتاجاً بفضل الاصطفاء المتواصل!! الخطير في الموضوع (وأرجو ان أكون قد هيأتك للتالي) هو انتقال هذه الفكرة الى عالم البشر.. ففي الدول الغربية توجد شركات متخصصة لبيع النطف البشرية وارسالها عبر البريد الى أي مكان في العالم. وهي عبارة عن بنوك متخصصة ومجازة وتملك مواقع على الانترنت - وهي من الكبر بحيث يتم تداولها في البورصة - ورغم أنها تعتمد على طلاب الجامعات كمصدر أساسي إلا أنها تبيع ايضاً نطفاً راقية ومتخصصة (إن جاز التعبير) لمن يستطيعون دفع ثمنها الباهظ.. فهناك نطف خاصة مأخوذة من حملة الدكتوراة والماجستير ونوابغ مشهود لهم في الفيزياء والذرة والرياضيات. كما توجد كاتالوجات خاصة بنطف (وبويضات نسائية) مصنفة حسب المهن والهوايات - فهذه لأشهر لاعبي السلة، وتلك لنجوم هوليود، واخرى لابطال الرياضة، ورابعة لأعظم رجال السياسة مكراً ودهاء.. ... مالا أفهمه هو أن مسألة الأمومة والأبوية أعظم وأسمى من كونها مجرد نطف وبويضات تباع عبر البريد (وبالتالي) لا يمكن تداولها أو مساواتها بما يحدث مع الثور بيكستون...!!