عُقد في رحاب مكةالمكرمة الأسبوع الماضي مؤتمر عن "الحوار" تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله- . ومن وحي هذا المؤتمر كان لي وقفات أردت أنء أوجزها هنا، كوني أشعر بأهمية إبرازها؛ لأجل الاستفادة منها في مؤتمرات قادمة بحول الله وتكون قد استفادت من مؤتمر الحوار الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي. ففي البدء، دعت الرابطة أكثر من خمسمائة شخصية إسلامية للمشاركة، ما بين عالم ومفكر وداعية من أقطار العالم الإسلامي والجاليات الإسلامية المنتشرة في العالم، ودعت ما يزيد على مئة شخصية إعلامية لتغطية المؤتمر خلاف وكالات الإنباء العربية والإسلامية والعالمية، وخلاف وسائل الإعلام المحلية أيضا. وكان السؤال الذي يطرح نفسه، هل سيشارك كل هذا الجمع في حوار لا يزيد على ثلاثة أيام فقط !! لكن هذا التساؤل سرعان ما تلاشى حين وضح أنّ هناك فقط أقل من خُمس هذه الشخصيات المدعوة للمشاركة، فهناك بحوث قد أرسلت للرابطة بناء على مراسلات الرابطة، ووضح من خلال هذه البحوث، وقراءتها قراءة متأنية أنّ هناك لبسا قد حدث في فهم الغرض الذي من أجله عقد المؤتمر. ومعنى هذا أيضا أنّ بقية المدعوين كانت ضيوفا ومراقبين في الواقع. ولكنهم على أية حال لا يقلون أهمية عن المشاركين بالبحوث، ووضح أيضا أنّ لجنة فرز البحوث قد أخذت البحوث التي تتماشى مع محاور المؤتمر الأربعة وهي التأصيل الإسلامي للحوار، ومنهج الحوار وضوابطه، ومع من نتحاور، وأخيرا مجالات الحوار. كان هناك بحوث قد خرجت إذاً عن هذه المحاور الأربعة وكان طبيعيا أن تستبعد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه : ما الذي دعاهم للكتابة عن غير هذه المحاور الأربعة أو اللبس الذي حدث بينهم وبين مراسلات الرابطة، أم هو اللبس الذي حدث من فهم موضوع المؤتمر ؟ لقد كان المدعوون منقسمين على أنفسهم من خلال فهم المؤتمر، ففئة تعتقد بأنه حوار بين الأديان، وفئة أخرى اعتقدت بأنه حوار بين المذاهب الإسلامية، طالما أنّه حدث في الرابطة وهي المعنية بمثل هذا الأمر، بينما اعتقدت فئة ثالثة أنّ المؤتمر حول الحوار، سيكون بمثابة توطئة لحوار آخر مع الأديان الأخرى. سيعلن عنه فيما بعد. وهكذا كانت آراء المدعوين. وجاءت كلمة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله لتقطع اللبس بما لا يدع مجالا للشك حين دعا إلى الحوار مع الآخر، من خلال الانطلاق من ثوابت إسلامية معروفة، ومن خلال القيم المشتركة التي دعت إليها الرسالات الإلهية، وكان لمفتي عام المملكة ذات المنحى حين بيّن ضرورات الحوار مع البشر، وهكذا كان الأمر واضحا، حوار مع الآخر، من خلال منطلقات محددة ومعروفة ولا خلاف عليها. لكن بحوث المؤتمر كما أسلفت ذهبت في اتجاه آخر وهي تتحدث عن أدبيات الحوار وإشكالات الحوار ومنهج الحوار وضوابطه، ومع من نتحاور. فلا حوار إذا مع الآخر في هذا المؤتمر وإنما هو تأسيس وتأطير لما سيكون عليه الحوار مستقبلا. وعلى نحو آخر، كان رئيس تشخيص مصلحة النظام الإيراني الدكتور أكبر هاشمي رفسنجاني، يتساءل عن المشتركات التي يجب أن تحدد قبل بدء الحوار، وكأنه يشير إلى المشتركات التي يجب أن نخلص إليها بين المذاهب الإسلامية وبالتحديد بين المذهب الشيعي وبقية المذاهب، وفي الحقيقة، لم تكن هذه الدعوة جديدة، فقد سبقها دعوات ودعوات، ففي عهد الملك فيصل طلب بعض علماء الشيعة في المنطقة الشرقية من المملكة، طلبوا حوارا مع علماء المملكة العربية السعودية، فأشار فضيلة الشيخ المرحوم عبد الرزاق عفيفي، على وزير العدل آنذاك أن نتفق على مرجعية الحوار بيننا وبينهم إن حدث خلاف، وهو ما سيقع بالطبع؛ فكتب إليهم وزير العدل هذه المرجعيات وهي كتاب الله وسنة رسوله ومنطلقات التشريع المعروفة لدى أهل السنة والجماعة. فلم يجيبوه ولم يحدث الحوار في تلك الأيام بالطبع. ومن هنا يظهر أن الوصول إلى المشتركات التي عناها رفسنجاني هي من الأمور الصعبة. من خلال نظرة كلا الفريقين إليها. تحدّث المؤتمرون عن محاور المؤتمر، ولكن بقية البحوث لم نصل إليها وقد يكون فيها ما لم نجده في البحوث المقروءة، وظهر من خلال اللقاءات والأحاديث الجانبية من الضيوف، وجهات نظر أخرى، لم تكن السائدة، ولكنها آراء يجب أن تحترم وتؤخذ في الاعتبار، فهناك من يقول إن الإسلام نقي واضح جلي لا يحتاج لحوار مع "الآخر" الذي يشوب ديانته التحريف، ولا يمكن أن نجد أرضية صالحة للحوار معه، وهناك من يقول إن المسألة الجوهرية ليست في الإسلام؛ وإنما في بعض أتباع الإسلام الذين يخطئون باسم الدين الإسلامي، فيما يميل آخرون إلى أنّ مصطلح "الحوار" هو مصطلح غربي، قدم إلينا وتم تمريره كما تمّ تمرير مصطلحات أخرى لم تجن علينا غير الويل والثبور، مثل مصطلح العالم الجديد "العولمة" بالضبط. حيث بدأت تتضح معالمه المخبوءة مع مرور الأيام. وهكذا بات الحوار كلمة يشوبها الشك والريبة إنء كان الحوار في ديننا، من وجهة نظر البعض، فديننا واضح وجلي، وعلى من أراد فهم الدّين الإسلامي قراءته قراءة متأنية، وفهمه بوضوح، ومن ثمّ سيكتشف الأخطاء التي حدثت في غيره من الديانات المحرفة، وسيقتنع بالدّين الإسلامي دينا وعقيدة ومنهجا. ومثل هذا الرأي صدح به غير واحد، فالدكتور محمود سالم الشيخ نائب رئيس جامعة فلورنسا تحدّث لإذاعة البرنامج الثاني يوم الخميس الماضي، في الساعة الخامسة عصرا، فقال في مجمل ما قال : إنني لا أعرف لم دعيت، فنحن نعرف آلية الحوار وضوابطه، ولكن لا نريد حوارا مع الآخر ونحن نفتقد إلى التوازن مع الآخر، وإلى آلية الحوار، نحن نحتاج تطوير المنهج العلمي والارتقاء ثم بعد ذلك سنحاور الآخر بعد أن نثبت له ولأنفسنا إنّ الدّين الإسلامي ليس في حاجة لحوار مع الآخر رغبة منه لا رغبة منّا نحن، وقال إن المنصفين في العالم الغربي اليوم يدركون ماهو الدين الإسلامي، ويعون تماما أنء لا علاقة للدين الإسلامي بتصرف بعض اتباعه، وأردف يقول إنهم أي المنصفون في الغرب يعرفون حقيقة هذا الدّين ويدخلون فيه بعد استيعابه، ولكن مما يؤسف له أنّ المحاوِر لم يكن في مستوى المُحاوَر، ووضح عدم قدرته على دفة الحوار، وعدم استيعابه لعقلية وفكر الضيف، وهذه من مثالب المؤتمر في حقيقة الأمر؛ ففي الوقت الذي كانت الوكالات العربية والإسلامية والعالمية قد أوفدت خيرة إعلامييها وصحفييها لتغطية المؤتمر، ووضح مدى وعيهم بأهمية المؤتمر؛ كانت الصحافة السعودية كعادتها في مثل هذه الحالات تعهد بالتغطية لصحفيي المكاتب، وبعضهم من المحليات أو الرياضة، مع احترامي للجميع بالطبع، لكنء تنقصهم الخبرة الكافية في تغطية مثل هذه المؤتمرات، وتنقصهم الخبرة الكافية في كتابة الخبر الصحفي، والكتابة السريعة والتلخيص الجيد غير المخل، وهذا مع الأسف لا يوجد في صحفيين اعتادوا على أنء يجدوا التقارير جاهزة، وعلى التسجيلات، وما تجود به ماكينة الفاكس أو الانترنت في الوقت الحالي؛ فكيف يحاور الدكتور يوسف القرضاوي على سبيل المثال صحافي لا يعرف أصلا ما هو النشاط الذي أفنى فيه القرضاوي نفسه طيلة عقود من الزمن !، وكيف ينظر ضيا من الضيوف لصحفي أجابه عن تساؤل وعاد ليسأله نفس السؤال مرة أخرى !!!. إن وزارة الثقافة والإعلام معنية بتدريب هؤلاء، وعلى الصحف ووسائل الإعلام المحلية أنء تطوّر من مستوى صحافييها، ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقال، وهؤلاء لم يدرسوا الصحافة ولم يطوروا أنفسهم، وجيء ببعضهم للصحافة وهو لا يعي بالضبط دور الصحافة جيدا. ومن هنا كان البون شاسعا بين التغطية الصحفية المحلية التي تكاد تكون واحدة، وبين التغطيات الأخرى، ولمن أراد أن يتأكد فعليه مراجعة التقارير الصحافية والإعلامية التي نشرت عن المؤتمر هنا وفي الخارج. مؤتمر الحوار، كان فرصة مناسبة أن يراجع المعنيون بالأمر كيف يمكن أن نستغل وجود مثل هذه الشخصيات الإسلامية القوية، وقد اجتمعت في مكان واحد، كيف نستغل وجودها الاستغلال الأمثل، وهذا لن يتأتى بالطبع؛ إلاّ بالتنظيم الجيد المسبق. الحوار مع الآخر، ليس هو الدعوة إلى الإسلام، والحوار مع الآخر، قد لا يكون حوارا دينيا وإنما حوار ثقافي عصري ، يتحدث عن التحديات المعاصرة، ويحاول أتباع الديانة الإسلامية تقديم الحلول لأزمات الإنسان والتحديات التي تواجهه. وإذا كان هذا هو القصد من الحوار؛ فهو في الواقع ليس حوارا دينيا؛ وإنما حوار أممي ثقافي، وليس محصورا عن ما يمكن أن أسميه بحوار رجال الدّين؛ بل يجب أن يشترك في الحوار هذا رجال الدّين والفلاسفة ورجال التربية والمثقفون، لأننا قد نحاور الآخر في الفلسفات والأمور الحياتية المعاصرة، وهذا هو الحوار الذي من الممكن أن يتم بيننا وبين الآخر، أما الحوار الديني والذي قد يصطدم بنظرة الشك والريبة لنا حين نحاور باسم الدين، ونشكك نحن أيضا في الآخر حين يريد أن يحاورنا في ديننا، فهو حوار لا يفضي إلى نتيجة أبدا. وعلى هذا فالأمر ليست المعنية به رابطة العالم الإسلامي وحدها؛وإنما سيتعدى ذلك إلى هيئات ومنظمات وتجمعات أخرى بحيث يصبح الحوار شاملا وكاملا..