أكاد أجزم أن كلمة سمو أمير منطقة مكةالمكرمة، التي ألقاها في ورشة عمل "مستوى الخدمة المقدمة لضيوف الرحمن"، قد أثلجت صدورنا جميعا، في شفافيتها ووضحها وتلمسها المباشر لمكامن الخلل المزمن الذي نواجهه في تسيير الخدمات لضيوف الرحمن. حيث نشرت صحيفة الوطن الأسبوع الماضي كلمة سموه التي أشار فيها بكل وضوح إلى ضعف الاستعدادات والتنظيم والإشراف على الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن، وأنها لا ترقى ولا تتوافق والإمكانات التي توفر للجهات المعنية. وألمح في كلمته الصريحة إلى الارتجالية وسوء التخطيط التي نشاهده في العديد من الخدمات المقدمة. والأبرز في حديثه إشارته للقطاعات المعنية أنه يتعاملون مع بعض المواقف وكأنها طارئة للتو ظهرت!! أو كما قال: "وكأننا نفعلها لأول مرة" وهي كلمة لها دلالتها ومغازيها العميقة التي تكشف مدى القصور الحاصل في خدمة الحجاج والمعتمرين من قبل القطاعات المعنية. وسأناقش - في مقالي هذا - جانبا واحدا من مكامن الضعف في تقديم الخدمات لضيوف الرحمن، والمتمثل في سوء تنظيم سير العمل من قبل رئاسة شؤون الحرمين الشريفين سواء في المسجد الحرام أو النبوي. وسأخصص حديثي حوله، مع أن مكامن القصور والضعف متواجدة في معظم الدوائر الحكومية الأخرى المعنية. وإن كان الحرمين الشريفين قد أخذا بعدهما في تطوير البنية التحتية والعمرانية، وإن كانت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي مشكورة تبذل قصارى جهدها في خدمة الزوار، إلا أنني أجدها لا زالت مقصرة في إدارة الجانب التنظيمي لزوار الحرمين، ولا زلت أراها تستخدم طرق تقليدية بحتة في إدارتهما. وأجزم أن هناك فسحة كبيرة للغاية لتطوير الجانب التنظيمي داخل الحرمين الشريفين، مما يساعد - بإذن الله - في تسهيل الحركة، وتقليل الازدحام، والحد من حالات الضياع، وكذلك الحفاظ على وقت الزائر الثمين، الذي قد يكون دفع جل ما يملك لقضاء ساعات أمام الحرم الشريف. ولا أخفيكم سرا، أن بعض منها يعتبر أمرا بدهيا يفترض تواجده منذ زمن بعيد في الحرمين الشريفين!! وأتساءل هنا حول مسلمات تنظيمية يجب توفرها في أي موقع يستقبل الزوار، نكاد لا نجدها إطلاقا في الحرمين الشريفين. أضرب مثالا بسيطا باللوحات الإرشادية التي يفترض تواجدها بشكل كافي لتسهيل الوصول إلى الخدمات والمواقع داخل الحرمين الشريفين. فكم لوحة إرشادية يمكن أن تشاهدها عند دخول الحرم؟..هل رأيتم لوحة تبين أين موقع المسعى مثلا، أو موقع الحجر الأسود؟.. أين اللوحات التي ترشدك للوصول إلى الأبواب بمسمياتها.. أين اللوحات التي ترشدك إلى موقع المركز الصحي لو أصيب أحدهم بطارئ صحي.. هل تعلمون أن هناك مركزا صحيا في الحرم؟.. ثم أين اللوحات التي ترشدك إلى مواقع دورات المياه؟.. ثم هل رأى أحد منكم مطوية تحوي خريطة لمداخل ومخارج الحرم حتي يسهل عليه الزيارة؟ دعونا الآن نقارن ذلك بأحد المتاحف البريطانية مثلا!! (مع فارق القياس في المكان) لتجد أن اللوحات الإرشادية تغطي كل زاوية من زواياه، لتسهيل حركة الزوار، أما الخرائط الإرشادية فهي تسبقك قبل دخول المتحف وعند دخوله وبعد خروجه!! ثم انظروا لبعض (قلت بعض) الحراس المدنيين وغيرهم لبوابات الحرم واستقبالهم للزوار بداء من المظهر الخارجي الذي لا يتفق وخصوصية الحرم الشريف، ثم جلافة وصلافة تعاملهم مع الزوار، بأسلوب لا ينم عن خلق المسلم، فما بالكم بمن يستقبل ضيوف الرحمن!!.. ثم لنقارن ذلك بأحد الحراس في أحد المتاحف الغربية (مع فارق القياس في المكان) وانظر إلى هندامه وحسن استقباله ولطافته مهما بلغت كثافة الزوار!! ولتطوير العمل لخدمة زوار الحرمين الشريفين، وتجاوز مثل تلك الصعوبات، فسأقدم ما أراه من مقترحات نابعة من استقراء سريع لتجارب الدول المتقدمة في تنظيم وتهيئة المواقع والأماكن التي يرتادها الكثير من الزوار، وكيفية التعامل معها، كالمتاحف والحدائق العامة وغيرها، وأرجو أن لا يُفهم من حديثي بتلك التجارب غير ما أقصده، فما أعنيه من تلك الاستفادة هو الجانب التنظيمي ليس إلا!! وتمتاز تلك المواقع - في الدول المتقدمة - بحسن التنظيم، والحرص الدقيق على إنهاء الزيارة بكل يسر وسهولة، من خلال تقديم المعلومات والإرشادات الضرورية للزائر حول الموقع وأقسامه وطريقة الوصول إليها، بداء من أول خطوة داخل الموقع وحتى آخر خطوة خارجه!! ويتم ذلك من خلال عناصر مؤهلة ومدربة للتعامل مع الزوار وإرشادهم، وتقديم المعلومات بطريقة سهلة وميسرة بصور شتى، منها المقروء والمرئي، باستخدام المطويات تارة، واللوحات الإرشادية تارة أخرى مع الخرائط التوضيحية. ولا يُغفل جانب استخدام التقنية الإلكترونية في ذلك بدءا من الموقع الإلكتروني على الإنترنت الذي يعرض كافة التفاصيل التي يحتاجها الزائر لذلك الموقع السياحي.. والتي تسبح عميقا في طلب راحة الزائر حتى تصل لدرجة تعريفه بما يحتاج أن يحضره معه للزيارة!! هذا ما يحصل في أماكن سياحية في تلك الدول، أو ليس لنا الحق أن نجد مثل ذلك وأعظم منه خدمة لزوار الحرمين الشريفين!! ومن ثم المقترح الذي أراه مناسبا للحرمين الشريفين كما يلي: أولاً: وضع أركان بالقرب من البوابات الرئيسة للحرم، لاستقبال الزوار والإجابة على استفساراتهم، والحصول على خريطة مجانية للحرم توضح الأركان الرئيسة فيه، ومداخله ومخارجه، وأماكن توفر الخدمات العامة كدورات المياه وغيرها. والمقترح إيجاد شخص مؤهل ومدرب للتعامل مع الزوار، يمتلك شيء من المعرفة باللغات الدارجة في العالم الإسلامي كالإنجليزية والأوردو والأندنوسية، ويرتدي زياً معيناً ليسهل التعرف عليه، لتقديم أي استفسارات أو تساؤلات حول الحرمين الشريفين. كما يفترض وجود خرائط مجانية وبلغات مختلفة توضح بوابات الحرم وأماكن الخدمات العامة، وأهم المواقع فيهما. فمثلا تحوي خريطة الحرم المكي موقع دورات المياه حول الحرم، وصناديق الأمانات، وموقع المسعى واتجاه الحجر الأسود وأماكن النساء، وأبرز معالم كل دور فيه. كما يفترض أن تحوي الخريطة أبرز التعليمات التي يفترض من الزائر التقيد بها كمنع الصلاة في الممرات ومنع إدخال الحقائب والأطعمة والمشروبات.. ثانياً: وضع لوحات توضيحية تبين اتجاه الأماكن الرئيسة للحرم، وتحديدا عند المداخل الرئيسة، فمثلا عند الدخول من باب السلام للحرم المكي يفترض وجود لوحات توضح اتجاه المسعى، وبداية الطواف، والمواقع المخصصة للنساء، واتجاه الصعود للدور الثاني أو الثالث وهكذا. ثالثاً: وضع لوحات إرشادية داخل وخارج الحرم توضح التعليمات التي يفترض من الزائر التقيد بها كمنع النوم داخل الحرم، والصلاة في الممرات، ولمسموح والممنوع من الأطعمة والأشربة، وغيرها. رابعا: من الضروري بمكان أن تقوم الرئاسة بوضع خدمة هاتفية مجانية لتلقي استفسارات الزوار عن ما كل ما يخص زيارة الحرمين من الناحية التنظيمية. ويمكن ذلك من خلال وضع هواتف في الساحات المحيطة بالحرم وفي الفنادق والتجمعات السكنية، ولا أقصد هنا خدمة هاتف الفتوي المتوفرة في البوابات الرئيسية للحرم المكي والتي تحتاج إلى مزيد من التعريف بها للزوار!! وغني عن القول أنه من الضروري بمكان أن تتوفر هذه الخدمة بأكثر اللغات الدارجة في العالم الإسلامي. خامساً: و نحن في عصر التقنية والإنترنت، فمن الضروري بمكان أن تقوم الرئاسة بإعداد موقع إرشادي متعدد اللغات لزوار الحرمين الشريفين، يعرض كل ما يحتاجه الزائر من تعليمات وتوجيهات إرشادية وتنظيمية، مزودا بالخرائط. كما يحوي أيضا تفصيلا بالصوت والصورة لأداء مناسك الحج والعمرة. وتلزم جميع الفنادق وشقق الإيجار بتوفير تلك الخدمة في صالة بمعدل جهاز كمبيوتر لكل عشرة غرف مثلا.. ودعوني أشطح قليلا في مقترحاتي، لأقول ما المانع من توفير تلك الخدمة مجانا في الأماكن العامة المحيطة بالحرمين الشريفين!! سادسا: وهو جانب تطويري مهم للغاية، ولا زالت تغفل عنه كثيرا الرئاسة، ويتعلق الأمر بالقائمين على حراسة الأبواب من الحراس المدنيين وغيرهم إضافة إلى المرشدين (كما أشرت في بداية المقال)، فاعتقد أن البعض منهم (وهم ليسوا بقله) ينقصه الكثير من حسن التعامل والصبر مع الزوار دون الانزعاج أو النهر والتوبيخ الذي غالبا ما نشاهده، وخصوصا ممن يوجهون الناس في بعض القضايا الشرعية، في أسلوب هو أبعد ما يكون عن الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة!! ولهذا فمن المفترض - بدءا- أن يؤهلوا هؤلاء ويدربوا تدريبا عمليا في جوانب الاتصال والتعامل مع الجمهور، فقد أصبح ذلك علما لوحده يدرس في الجامعات، وتعقد له الدورات التدريبية في شتى بقاع الأرض، أفلا يستحق من يخدم ضيوف الرحمن هذا النوع من التدريب والتأهيل؟!! أجزم أن سعي رئاسة الحرمين الشريفين لتقديم مزيد من الجهد حول هذه المقترحات، لتطوير الجانب التنظيمي للزوار (التي لن تكلف سوى ميزانية محدودة)، ستساعد بعون الله في الحد من الازدحام، وتسهيل حركة الزوار، والحد من حالات الضياع، وتوفير الوقت للزوار. ولا يمنع ذلك من قيام الرئاسة بإرسال وفد متخصص لزيارة عدد من المتاحف العالمية، وغيرها من المواقع المشهورة عالميا بكثافة زوارها في الدول المتقدمة، للإطلاع عن كثب حول الجوانب التنظيمية في تسهيل حركة الزوار لها. كما لا يمنع ذلك من إنشاء موقع إلكتروني للرئاسة يخصص لتقبل الاقتراحات حول ذلك وفق خطة إعلامية مدروسة لضمان التعريف به والاستفادة منه. على كلٍ، ناقشت في مقالي هذا زاوية واحدة من مكامن الخلل في خدمة ضيوف الرحمن، تركزت في ضعف تنظيم العمل بالحرمين الشريفين من قبل الرئاسة، مع العلم أن القصور والخلل متواجد في معظم الدوائر الحكومية، ولا جدال في ذلك!! وهذا لا يعني أن نتجاهل العديد من مكامن القوة والايجابيات لدى جميع تلك القطاعات، وعلى رأسهم رئاسة شؤون الحرمين الشريفين، إلا أن القصور واضح، كما أن تلك الجهات تتعامل مع خصوصية للمكان والزمان تجعلنا لا نقبل الأعذار مهما كانت، خصوصا إذا أصبحت تشاهد باستمرار، ويمكن تتداركها بسهولة!! وأخيرا، فعمل خدمة ضيوف الرحمن يحتاج إلى تقييم عاجل، ووضع خطة إستراتيجية تشمل تحليلا شاملا للوضع الحالي وتحديد مكامن الضعف والقصور والمهددات التي تؤثر على سير العمل، ثم مكامن الفرص ومواطن القوة المتوفرة حاليا.. ثم وضع أهداف واستراتيجيات ومن ثم خطة عمل تطويرية شاملة، تشمل - فيما تشمل - تطوير للموارد البشرية وتدريبيها، وإعادة توجيه الموارد المالية. وقبل أن اختم سطوري أعكف على كلمات سموه المؤثرة في نفوسنا جميعا عندما قال: لقد رأيت من المناظر البشعة على أرصفة منى ومزدلفة وعرفات ومكة.. الحجاج مع النفايات.. هذا عيب علينا جميعا، كيف نتحمل هذه المناظر؟ وكيف نقبل هذه المناظر؟ وكيف نقبل هذه المعاملة؟.. عيب علينا أن نبقى في آخر القائمة في هذا المجال، ونحن أقدم البشر في هذه الخدمة وهل هناك أكرم من خدمة ضيوف الرحمن؟!! * خبير تعزيز الصحة