يمثل الأمن البحري أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الأسرة الدولية، وتستدعي الكثير من الجهد، والمزيد من العمل المشترك.ويرتبط بالأمن البحري طيف واسع من القضايا الاقتصادية والاستراتيجية، فضلاً عن تلك المتصلة بالشؤون الإنسانية والسلامة المهنية والعامة، والأمن البيولوجي، وأمور عديدة أخرى. وعلى الرغم من ذلك، فإن التحدي الأكثر بروزاً، أو لنقل الماثل للعيان على نحو أكثر وضوحا، يتمثل في الحوادث التي تتعرض لها وسائط النقل المدنية وهي تمخر البحار والمحيطات، وخاصة في المنعطفات التي تمثلها المضايق البحرية، التي تعد المكان الأكثر سهولة للهجوم على البواخر والناقلات والاعتداء على أطقمها وممتلكاتها. وترمي هذه الحوادث بتداعياتها المباشرة على إمدادات الغذاء وأمن الطاقة والأمن البيئي للبحار والشواطئ، وهي تمثل نوعاً من الاعتداء على السلامة البشرية. وفي التحليل الأخير، فهي تهديد رئيسي للأمن الدولي. وفيما يمكن اعتباره تحركاً دولياً جديداً على طريق التصدي للتحديات التي يفرضها الأمن البحري، قال سفير فرنسا لدى الأممالمتحدة جان موريس ريبير، في الثاني والعشرين من نيسان أبريل الماضي، إن بلاده تعتزم، بالتعاون مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا، إعداد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي حول محاربة القرصنة البحرية. وبطبيعة الحال، فإن الوصول إلى مثل هذا القرار ليس بالأمر اليسير، إذ أن هناك منظومة كبيرة من القضايا القانونية التي يجب تحليلها ومعالجتها، فمن الضروري على سبيل المثال تحديد المنطقة الجغرافية المغطاة، ومعايير تحديد هذه المنطقة، وكيفية ملائمة ذلك مع اتفاقية الحقوق البحرية، وآلية إدراج الدول المختلفة في مهام الدوريات المشتركة في مياهها الإقليمية، وطبيعة الأطر القانونية التي يمكنها اعتمادها في هذا الصدد، وإلى غير ذلك من أمور. وكانت فكرة فرنسية، طرحت في شباط فبراير الماضي، ودعت لتشكيل قوة دولية بتفويض من الأممالمتحدة، بهدف مكافحة القرصنة البحرية. أي أن مهمتها ستكون العمل على تأمين الممرات البحرية الحيوية، وخاصة عند المضايق.وفي العشرين من شباط فبراير الماضي، ناشد مجلس الأمن الدولي الأقطار التي تعمل سفنها وطائراتها العسكرية في الأجواء والمياه المتاخمة للساحل الصومالي اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية السفن التجارية، بما فيها السفن التي تحمل الإمدادات الإنسانية.وحسب الإحصاءات المتداولة، فإن أكثر من 30هجوما قد طال سفناً تجارية في المياه الصومالية خلال العام 2007.بيد أن التحديات الأمنية الماثلة اليوم تشمل عملياً كافة الممرات الاستراتيجية البحرية، كمضايق ملقا وهرمز وباب المندب وقناة السويس وجبل طارق والبوسفور، على أن وضع باب المندب، وضمناً خليج عدن، بدا أكثر هذه الممرات إثارة للقلق الدولي. ودعونا نؤكد الآن على حقيقة أن هناك ضرورة ملحة لتطوير آلية دائمة لمراقبة وتقييم التطورات المتعلقة بأمن الممرات البحرية الاستراتيجية، وتقديم مساعدة أمنية مرنة إلى الدول المختلفة، أو حتى القيام بعملية خاصة لضمان أمن المنشآت والبواخر والأفراد في عرض البحار. ويعتبر مضيق باب المندب، الذي يمثل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، والذي يربطه بخليج عدن وقناة السويس، إحدى الحلقات الأساسية في طريق ناقلات النفط المتجهة من الخليج العربي إلى أوروبا، فمنه تتم عملية المرور بالبحر الأحمر فقناة السويس فالبحر الأبيض المتوسط.وعلى خلفية الوضع الأمني الحرج، وخاصة في المدخل الجنوبي لباب المندب على خليج عدن، لم يحظ المضيق سوى بحصة متدنية من إجمالي النفط الذي عبر المضايق العالمية الرئيسية.وقد قدرت هذه الحصة في العام 2006بما يعادل ثلاثة فاصل ثلاثة ملايين برميل يومياً، مقابل 16مليونا لمضيق هرمز، و 15مليونا لمضيق ملقا في جنوب شرق آسيا. وكانت شحنات النفط التي مرت عبر باب المندب قد قدمت من دول الخليج متجهة إلى أوروبا والولاياتالمتحدة.وعلى الرغم من ذلك، فإن الحركة التجارية البحرية في باب المندب ظلت ناشطة بوجه عام، فهناك محددات جيوسياسية لا يمكن تجاوزها، ومن هنا تأتي ضرورة حماية الممرات والمداخل المؤدية إليه. وبالنسبة لنا نحن هنا في الخليج، يمثل الأمن في مضيق هرمز أحد الأبعاد الأكثر جوهرية في معادلة أمننا الإقليمي ضمن إطارها الكلي، أو لنقل سياقها الأكثر مركزية. وقد ارتبط هذا المضيق في الوقت نفسه بالأمن الدولي باعتباره أهم شريان مائي للطاقة النفطية في العالم.ومنذ النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، صدر كم كبير من الدراسات والأبحاث المنهجية التي تناولت البيئة الجيوسياسية والاقتصادية لمضيق هرمز.وبعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، تزايدت الدراسات التي عالجت وضع المضيق بالمنظورين الاستراتيجي والعسكري.وبدا هذا النوع من المقاربات أكثر حضوراً بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990.وقد عاد الحديث عن أمن هرمز إلى الواجهة في السنوات الأربع الماضية. وقد شهدت منطقة الخليج صدور بعض الدراسات الخاصة بالمضيق، وبدا هذا واضحاً بصفة خاصة اعتباراً من تسعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحاجة لا تزال ماسة لمزيد من المقاربات الخاصة بالبيئتين الجيوسياسية والاستراتيجية للمضيق. وحسب التقارير التي نشرتها في الفترة الأخيرة شركة لويدز، المتخصصة في الشحن البحري، تمر عبر مضيق هرمز حمولات شحن تبلغ 2.9مليار طن سنويا.كما ارتفعت صادرات النفط الخام من خلال المضيق إلى 750مليون طن في العام 2006حيث تنقل عبره 27% من الشحنات العابرة بناقلات النفط على صعيد عالمي. وتزيد هذه النسبة إلى 50% مع احتساب المشتقات النفطية والغاز الطبيعي وغاز النفط المسال.وهو الأمر الذي يؤكد المكانة العالمية لهذا المضيق. والحقيقة، فإن إحدى نقاط الضعف في الأمن الدولي تتجسد اليوم في ممرات النفط الخام، خاصة وإنّ العديد من الدول تعتمد على إمدادات الطاقة التي تأتي من مسافات بعيدة جداً، مثل خطوط الأنابيب التي تعبر قارات بأكملها أو الناقلات التي تحمل الغاز الطبيعي المسال عبر مسافات طويلة في البحار والمحيطات الواسعة. وحسب بعض التقارير الدولية ذات الصلة، من المتوقع أن يزيد كثيراً عدد وحجم الناقلات العملاقة خلال العقد القادم.وفي محاولة لتأمين الطلب المتزايد على الطاقة، يتم حالياً تشييد المزيد من البنى التحتية، مثل مشاريع خطوط الأنابيب الجديدة في أعماق البحار وموانئ تصدير الغاز الطبيعي المسال. وعلى الرغم من أن الاستراتيجيات الأمنية لكثير من الدول تتضمن عناصر ذات صلة بحماية خطوط الإمدادات البحرية الحيوية، فإن تطبيق هذا المفهوم يستلزم، وفقاً للعديد من الدراسات، تكثيف الحضور البحري وأنشطة المراقبة على طرق النقل البحرية.ويتطلب هذا الأمر توفير القدرات اللازمة لقوات التدخل الوطنية أو الإقليمية، التي يجب أن تكون مرنة وقابلة للتعديل السريع على مستوى الأفراد والعتاد، والتي يمكن إدامتها وتزويدها بالإمدادات من مسافات بعيدة. ويمكن للدول أو المنظمات الإقليمية نشر ما يُعرَف بمجموعات المساعدة الأمنية، المصممة خصيصاً لدعم دولة (أو عدة دول)، بحيث يتضمن ذلك تعزيز الدوريات البحرية والجوية، وتفعيل شبكات الاتصالات، وتقديم المساعدة إلى جهود مواجهة الكوارث عبر آليات خطط الطوارئ. وحسب بعض الدراسات الدولية المتخصصة، فإنه في حالات معينة، لا بد لأية عملية ردع أن تتضمن مهمة المواكبة البحرية القصيرة الأمد، وحماية منصات التنقيب والحفر والموانئ النفطية، ومساعدة السلطات المحلية على حماية معدات التحميل والتفريغ الموجودة في موانئها النفطية، وحماية مصافي النفط وأماكن التخزين.وبصفة عامة، فإن التنفيذ الناجح والامتثال المنظم للتدابير الخاصة بتعزيز الأمن البحري ظل مكلفاً لغالبية دول العالم، وذلك بسبب ضعف العمل الدولي المشترك الخاص بجمع وتقييم وتبادل المعلومات على نحو مبكر، ناهيك عن غياب مستويات التنسيق الضرورية المرتبطة بتزويد السفن العالمية بالمعلومات المتعلقة بالوضع الأمني، وذلك وفقا لاتفاقية "سلامة الأرواح في البحار" (SOLAS) و"المدوّنة الدولية لأمن السفن والمرافئ" (ISPS). وضمن المشكلات المثارة أيضاً، يبرز غياب التنسيق مع المنظمة البحرية الدولية IMO و"منظمة العمل الدولية" ILO ومنظمة الجمارك الدولية WCO في مجال تطبيق المدونة واتفاقية (SOLAS)، استناداً إلى القرارات الصادرة بهذا الشأن عن المنظمة البحرية الدولية في كانون الأول ديسمبر من العام 2002.ويضاف إلى كل ذلك غياب المواصفات الفنية المجمع عليها لأجهزة الاتصالات الAIS (Automatic Identification System) الخاصة بالتعرّف على هوية السفن في البحر، وجهاز استقبال إنذارات السفن ال (Ship Security Alarm System). SSAS وضاعف من هذه المشكلات أيضاً ضعف الترتيبات الإدارية الخاصة بمواجهة القرصنة، الأمر الذي أثر سلباً على جهود مكافحتها في العديد من الدول.كذلك، فإن غياب الأطر القانونية الخاصة بمحاكمة وإدانة المتورطين في هذه الأعمال قد زاد من تعقيد الأمر. وهناك تجربتان في العمل الإقليمي المشترك، الخاص بمواجهة التحديات الماثلة للأمن البحري، جرت الأولى في البحر الأدرياتيكي، فيما لا تزال الثانية جارية في البحر الأبيض المتوسط.ومن جهتها، كانت منظمة العمل الدولية قد اتخذت في العام 2004خطوة هامة على طريق تعزيز الإجراءات الأمنية في عرض البحار والمرافئ العالمية، وذلك من خلال اعتماد نظام جديد لتحديد الهوية، يعرف "بالبيولوجيا الإحصائية". وقد طال هذا القرار نحو مليون ومائتي ألف عامل بحري يعنون ب 90% من التجارة العالمية. ويعتمد "نموذج البيولوجيا الإحصائية" على تحويل بصمتَين من أصابع البحارة إلى رمزٍ دولي موحَّد يثبت على وثيقة البحارة. ومبدئياً، يعد هذا الإجراء ضرورياً لتطبيق اتفاقية وثائق هوية البحارة، التي اعتمدتها منظمة العمل الدولي في حزيران - يونيو من العام 2003.إن دول العالم ومؤسساته المختصة معنية اليوم بابتكار المزيد من الوسائل والآليات الكفيلة بتحقيق الأمن البحري على المستويات الوطنية، كما الإقليمية والدولية.وستكون الأممالمتحدة الجهة المثلى لطرح مزيد من الأفكار والتصورات، التي يمكن تحقيقها بجهد دولي مشترك، فهذا النوع من الجهد هو أكثر ما يحتاجه الأمن البحري.