أود أن أشكر أخي العزيز الدكتور عبد الله المعيقل على تفاعله مع موضوع ريادة العواد الشعر الحر وهو المتخصص في الأدب الحديث والناقد الحصيف ذو الرؤية العميقة التي كثيرا ما كان لها أثرها وتأثيرها في الساحة الثقافية، كما أشكر كل المتفاعلين مع مقالاتي في موقع الرياض الإلكتروني وأخص منهم من رمز لنفسه بإبراهيم أو طالب الدراسات العليا بجامعة الإمام أو متابع وأود أن أقف مع العزيز المعيقل وقفة سريعة تتمثل في أنني أتفق معه في ما جاء في مقاله وأختلف وسأركز مواطن الاتفاق والاختلاف في النقاط التالية: 1- أتفق معك أخي العزيز بأن مصطلح الشعر الحر يشير إلى بدايات الخلاف على الريادة في الشعر الحر في أواسط القرن العشرين وأتفق معك أنه استقر الآن على مصطلح شعر التفعيلة وأنت تعلم أنني أعلم ذلك بدليل استعمالي لمصطلح شعر التفعيلة بدلا من الشعر الحر في كتبي وأبحاثي العلمية بما فيها كتابي الذي يضم مقالاتي عن العواد وعنوانه "الشعر العربي الحديث في شبه الجزيرة العربية" الذي سيصدر في وقت لاحق بمشيئة الله. ولكن ما أود توضيحه هو أنني تعمدت استعمال مصطلح الشعر الحر لأعيد القارئ إلى أجواء الصراعات التي كانت ملتهبة في أربعينيات القرن المنصرم وقت نازك الملائكة والسياب ليشعر بالأهمية العلمية للموضوع وقد نجحت في ذلك وأعدتك إلى تلك الأجواء بدليل ردك، كما أنك أيها العزيز تعلم كما يعلم الجميع ومنذ القدم أنه لا مشاحة في الاصطلاح طالما أن المفهوم واحد فما نسميه الآن شعر التفعيلة كان يسمى قبل أربعين سنة الشعر الحر. 2- يعترض الدكتور المعيقل على أنني أنسب الريادة في شعر التفعيلة للعواد بحجة أن العواد كتب قصيدتيه الأولى والثانية مجاراة لشاعر عراقي نشر نصا تفعيليا في صحيفة العراق بتوقيع "ب - ن" وبناء على ذلك فإن العواد لا يستحق الريادة. أقول يا صديقي العزيز ردا على اعتراضك هذا ما يلي: إنني بدأت حديثي في موضوع ريادة العواد الشعر الحر بنشر مقالة درست فيها نص الشاعر العراقي المجهول الذي رمز لاسمه ب "ب - ن" ونشرت مع المقالة صورة جريدة القبلة التي نشر فيها"ب - ن" نصه وقلت إنني أفعل ذلك تحقيقا للموضوعية ووفاء للمجهول برغم مجهوليته لأن هدفي هو الحقيقة العلمية، ثم كتبت بعد تلك المقالة مقالتين قدمت فيهما دليلين ماديين يثبتان ريادة الشاعر السعودي محمد حسن عواد الشعر الحر وهما القصيدتان الحرتان اللتان نشرهما العواد في صحيفة القبلة عام 1921م مرفقا صور النصين كما هما من صحيفة القبلة، وقد كان الفاصل الزمني بين نشر "ب - ن" قصيدته في القبلة ونشر العواد قصيدتيه في الصحيفة نفسها أقل من شهر، وبالنظر إلى المستوى الفني لقصيدتي العواد ومقارنته بالمستوى الفني لقصيدة "ب - ن" نجد أن قصيدتي العواد أرقى بكثير من قصيدة "ب - ن" مما يدل على تمكن العواد من الشعر الحر وممارسته قبل "ب - ن"، ولكي لا يتشعب بنا الحديث دون ضابط أجدني بحاجة إلى التذكير بالمفهوم الإجرائي للريادة في سياق دراستي وهو يعني: سبق محمد حسن عواد كلا من علي أحمد باكثير ونازك الملائكة والسياب في كتابة الشعر الحر. ويتضح من هذا المفهوم أن ما أركز عليه هو البعد التاريخي للريادة وليس البعد الفني لأن التركيز على البعد الفني يخرج كل من ذكرتهم من الريادة باستثناء السياب. وبعد هذين الدليلين الماديين التاريخيين ثبت لدينا أن تواريخ بدايات كتابة الشعر الحر جاءت عند الرواد على النحو الآتي: 1- علي أحمد باكثير في سنة 1936م. 2- نازك الملائكة في سنة 1947م. 3- بدر شاكر السياب في سنة 1947م. وبربط تواريخ كتابة هؤلاء الرواد قصائدهم الحرة بتاريخ كتابة العواد قصيدتيه المنشورتين في صحيفة القبلة سنة 1921م نستنتج أنه قد ثبت لنا ثبوتا قطعيا بالدليل المادي التاريخي والفني أن الشاعر السعودي محمد حسن عواد قد سبق باكثير في كتابة الشعر الحر بخمس عشرة سنة، وسبق نازك الملائكة والسياب في كتابة الشعر الحر بست وعشرين سنة. ولا ينقص من سبق العواد وريادته الشعر الحر كتابة المجهول "ب - ن" قصيدة حرة ونشرها في صحيفة القبلة لأن وجود المجهول "ب - ن" في مسيرة العواد نحو اكتشاف الشعر الحر يعادل وجود الشيخ الحجازي المجهول في مسيرة الخليل بن أحمد الفراهيدي نحو اكتشاف علم العروض والتنظير له، فقد صرح الفراهيدي بأنه اهتدى إلى علم العروض بواسطة شيخ مجهول في المدينةالمنورة كان يعلم صبيا علما يسمونه علم التنعيم فقد "سئل الخليل، هل للعروض أصل؟ قال: نعم. مررت بالمدينة حاجا، فرأيت شيخا يعلم صبيا ويقول له: نعم لا. نعم لا لا. نعم لا. نعم لا لا نعم لا. نعم لا لا. نعم لا. نعم لا لا قلت: ما هذا الذي تقول للصبي؟ فقال: هو علم يتوارثونه عن سلفهم يسمونه (التنعيم) لقولهم فيه: نعم. قال الخليل: فرجعت من الحج فأحكمتها، أي فأحكمت هذه الصنعة، وتمكنت منها (1). فاعتراف الفراهيدي بالمصدر الذي اقتبس منه فكرة علم العروض "وهو شيخ مجهول في المدينةالمنورة" لا ينتقص من عبقرية الفراهيدي شيئا بل يعلي من قدره. واعتراف العواد بالمصدر الذي اقتبس منه فكرة الشعر الحر" وهو شاعر مجهول على صفحات صحيفة القبلة الحجازية رمز لاسمه ب "ب - ن" لا ينتقص من عبقرية العواد شيئا بل يعلي من قدره. وقد صرح العواد بمصدر اقتباسه مثلما صرح الفراهيدي من قبل بمصدر اقتباسه، وفي هذا تعادل بين السلف والخلف في الأمانة العلمية مما يجعل من العواد خير خلف لخير سلف. والسؤالان المهمان اللذان يطرحان الآن هما: بعد علم الفراهيدي وتنظيره: هل يصح أن ننسب علم العروض إلى الشيخ المجهول الذي لقيه الفراهيدي في المدينةالمنورة؟ وبعد إبداع العواد الشعر الحر بإرادة فنية ووعي لمتطلبات المرحلة ونشر نصين منه في زمن قريب من مناداته إلى الشعر الحر والتنظير له في سلسلة طويلة من المقالات النقدية التي نشرها في سنة 1926م، ثم جمعها فيما بعد في كتاب بعنوان "خواطر مصرحة" كما شرح آراءه في عروض الشعر العربي في كتاب مستقل بعنوان "الطريق إلى موسيقى الشعر الخارجية" وامتلاكه صوتا شعريا ونقديا يمتد من سنة 1913م إلى سنة 1979م. هل يصح بعد هذا كله أن ننسب الشعر الحر إلى المجهول الذي لقيه العواد على صفحات صحيفة القبلة؟ أعتقد أن الإجابة الصحيحة عن السؤالين السابقين لا تخفى على أحد. فإذا جاز لنا يا صديقي العزيز أن ننسب علم العروض إلى الشيخ المجهول في المدينة فإنه يجوز لنا أن ننسب الشعر الحر إلى الشخص المجهول في صحيفة القبلة الذي رمز لاسمه ب "ب - ن". 4- يعترض الدكتور المعيقل قائلا"لا يُعقل أن يقال إن العواد كتب قصائد مماثلة قبل هذه فليس لدينا ما يثبت ذلك". وأقول يا عزيزي: كتب العواد قصائد مماثلة ومخالفة قبل نصيه المنشورين في صحيفة القبلة، ولكن العواد كان في تلك القصائد يمجد الهاشميين وأنت تعلم أن صحيفة القبلة توقفت في مطلع العهد السعودي الزاهر وقد كانت الذراع الإعلامي السياسي للهاشميين (وزارات داخلية وخارجية وإعلام) وقد كان يكتب فيها الشريف حسين نفسه تحت اسم مستعار هو "ابن جلا" ومن غير اللائق بحصيف كالعواد وقد دالت دولة الهاشميين أن يصدر قصائد تمجد عهدا بائدا في مطالع عهد جديد نظرا للحساسية التي كانت تكتنف مرحلة تأسيس الدولة مما لا يخفى على أحد ولدي ما يثبت أنه كتب قصائد مماثلة ستراها في الحلقات القادمة من الموضوع، أما القصائد التي نشرها العواد في العهد الهاشمي فقد صفاها من كل إشادة أو ذكر للهاشميين مما جعلها تبدو غير تفعيلية وقد أوقعه صنيعه هذا في حرج شديد جدا مع النقاد الذين تناولوا شعره وقد قمت بترميم نصوص العواد المنشورة وأعدت إليها الأسطر التي حذفها من صحيفة القبلة. فاللوم هنا يقع على همم بعض الباحثين في الأدب السعودي التي قصرت دون الوصول إلى صحيفة القبلة وهي موجودة بين ظهرانيهم وتحديدا في مكتبة الأمير سلمان المركزية في جامعة الملك سعود بالرياض. 5- أما قولك أيها العزيز إن العواد لم يكن يفخر بهذه الريادة مثلما أفتخر بها أنا الآن فأقول: أنا باحث ولست مفاخرا، ولو أردت المفاخرة لقلت إنني أول من أشار إلى هذه الحقيقة العلمية في الأدب الحديث، ولكن الذين أشاروا إليها كثيرون ومعظمهم باستثناء الدكتور إبراهيم الفوزان أشاروا إليها في سياق الإنكار والاستكثار وليس في سياق الإثبات بالدليل المادي، ولكنني لم أقل ذلك ولم ألتفت إليه ولم أهدف إليه أصلا، والفارق كبير جدا بين من يشير إلى المعلومة مجرد إشارة عجلى وخجلى وغير واثقة وبين من يطرحها بقوة وثقة وإثبات بالدليل المادي ولولا أنني أعرض بحثي في ريادة العواد في صورة مقالة صحفية لرأيت من المراجع والإحالات والتحليلات ما يكفيك لتغيير رأيك. أما عدم افتخار العواد بنفسه وهو صاحب حق وريادة وقصب سبق فهذا الأمر لا ينقص من القيمة العلمية والتاريخية لهذه الحقيقة شيئا، فأنا يا صديقي أدرس نص العواد ولا أدرس شخصه. وأضيف أيضا: أنني رصدت كل ما كتب عن العواد (تقريبا) وفرزته قسمين: إقصائي وموضوعي. وسترى كم تعرضت نصوص العواد للظلم من قبل الباحثين في الأدب السعودي. ومن هنا فإنني أقول إن نصوص العواد التي استشهدت بها في مقالاتي تحقق شروط قصيدة التفعيلة التي استقر عليها المصطلح من حيث موضوعاتها وأوزانها ولغتها وقد حددت الأسباب التي من أجلها أقصي العواد عن ريادة الشعر الحر. هذا ما أحببت أن أبينه ياصديقي العزيز في هذه المقالة وستجد المزيد من التفصيل عن الشعر العربي الحديث في شبه الجزيرة العربية في الكتاب لاحقا والآن دعني أنتقل من الرد على مقالتك القيمة إلى إسماعك شيئا من خواطري المصرحة والمكتمة إبان جمعي مادة كتاب الشعر الحديث في الجزيرة العربية وتحديدا الجزء الذي يتعلق بالعواد رحمه الله. إنني أعجب من حالنا نحن المثقفين في السعودية وفي دول ما يسمى بالأطراف الثقافية كيف بلغ بنا الانبهار بدول المراكز الثقافية إلى درجة أننا أصبحنا نعاونهم على طمس حقائقنا العلمية والثقافية بل ونشاركهم في إثبات ما لا يمتلكونه أصلا، إنني أعتقد أن هذه الحقيقة العلمية لو ثبتت في ساحة ثقافية أخرى غير الساحة السعودية لطارت بها الفضائيات وعقدت من أجلها المؤتمرات وسميت باسمها الجوائز والميادين والطرقات، انظر في كتب الأدب العربي الحديث مثل كتاب قضايا الشعر المعاصر لنازك الملائكة وشاهد كيف تجير الريادة لذاتها وقد سبقها العواد بأكثر من ربع قرن، وانظر في كتاب في الأدب العربي الحديث ليوسف عز الدين وشاهد كيف يجير الريادة لمجهول عراقي هو "ب - ن" وانظر في كتابي عز الدين اسماعيل وعبد القادر القط وغيرهم وشاهد كيف يعطون موضوع الريادة صبغة إقليمية كل بحسب القطر الذي ينتمي إليه وكلهم لا يملكون الدليل المادي على ما يقولون ولم يقدموا ما يثبت أقوالهم في كتبهم التي ندرسها في جامعاتنا لأبنائنا الطلاب في حين أننا في السعودية نمارس جلد الذات الثقافية برغم قوة حججنا وسطوع براهيننا فهل ألام على طرح هذه القضية وإثباتها بالدليل القاطع؟! ألام فعلا لو أنني زعمت أن الشيخ الذي اقتبس منه الفراهيدي علم العروض في المدينةالمنورة هو جدي الشيخ سعد الصفراني الجهني رحمه الله. ألم تسمع يا صديقي العزيز قول الذين يجادلون في نسب الشاعر العربي المعروف قطري بن الفجاءة لينسبوه إلى قطر لمجرد اشتمال اسمه على ياء النسبة؟ وألم تسمع يا صديقي العزيز قول الذين يجادلون في نسب الشاعر العربي المعروف أمية بن أبي الصلت لينسبوه إلى مدينة السلط الأردنية؟ فما بالنا نحن السعوديين نفرط في مجد ملكناه بالبراهين القاطعة والحجج الدامغة؟!! لنقدم كتابنا في الأدب الحديث العربي الحديث في شبه الجزيرة العربية من وجهة نظرنا إلى جانب الكتب الموجودة في المشهد الثقافي العربي وندع الحكم للقارئ والتاريخ، وهذا من أبسط حقوقنا كباحثين وأصحاب وجهة نظر وجيهة، وآمل منك يا صديقي العزيز التريث وقراءة مقالاتي التالية ففيها الكثير والكثير مما يجيب عن تساؤلاتك وتساؤلات الإخوة القراء على أمل أن يُقرأ موضوع ريادة العواد بموضوعية بعيدا عن جلد الذات أو الزهو بها فالعلم لا يقوم على التمني ولكنه يقوم على الحجج والبراهين والأدلة المادية، وأكرر شكري للجميع. @ أستاذ الأدب والنقد الحديث - جامعة طيبة (1) معروف، نايف، والأسعد، عمر - علم العروض التطبيقي - ط1- دار النفائس - بيروت - 1987م- ص 8