لن تكون التصورات المبسطة والحالمة وتعمية الحقائق سبيلاً لإنجاز القراءة الشجاعة والجديرة باستيعاب اللحظة الاستثنائية واقتناص معطياتها لبناء مجتمع التنمية المستدامة، وتحويلها من فرصة عابرة في لا نهائية التاريخ إلى صناعة لتاريخ الإرادة الوطنية المدركة لحقوق ورثة الوطن القادمين، وأمانتهم المقدسة في عنق هذا الجيل، ومن لا يعبأ بهروب اللحظة في متاهات الزمن لترث أجيالنا (لا سمح الله) وطناً صحراوياً جافاً وشحيحاً، فليس عليه إلا أن يضع العصي في عجلة الحركة ويعرقل التطور الاجتماعي وتبلور العمل المؤسسي لاحتضان التنمية المستدامة. لن تنحل المشاكل المتوالدة داخل النمو عبر الزمن، قد تلتبس في أشكال وتعريفات مختلفة ولكنها لا تفنى، ويتوقف حلها على فهم وتدبر الطبيعة الجديدة للعلاقات الإنسانية في مجتمعات الإنتاجية المركبة، التي تقتضي التخصص وتقسيم العمل، وتفرض التغيير على التشكيلات الاجتماعية، فتحيّد الروابط القديمة، (الأهلية والقرابية)، من أجل إعادة ترتيبها في أطر المفاهيم والحاجات المنبثقة عن علاقات وحاجات العمل، وتوزيع الأدوار والمصالح بين شرائح المجتمع وفئاته، وهي سياقات منتجة للتنافس السلمي وشحذ المبادرة الفردية وروح الإنجاز، ضمن سجالات محكومة ومنضبطة بالإدارة الرشيدة، والتزام الفاعلين الاجتماعيين بالقواعد المؤسسة للصراع السلمي في إطار الاعتراف المتبادل، والالتزام بالقوانين ومبادئ المساواة المطلقة والساعية لتحقيق مصالحها وفق مقتضيات المصلحة العليا، وتفرض هذه التحولات في الروابط الاجتماعية، تجاوز الأواصر السابقة للمجتمع الصناعي، كمسار حتمي يحتمل التعديل والاندراج داخل المنظومات الثقافية الوطنية والمرجعيات الأخلاقية، كما يحتمل إدارته والسيطرة عليه في نطاق هيئات وتنظيمات قانونية ملتزمة بالمبادئ الوطنية والغايات العليا والسلم الاجتماعي، إلا أن انكاره وتجاهله يعني تخلياً عن المشروع الوطني التنموي أو الانحراف به إلى الفراغ. من هنا يبدو مشروعاً أن يسعى مجتمع الأعمال إلى تعظيم الأرباح وتحقيق المكاسب، فهو لا يغطي مساحة دوره الوطني دون بلوغ ذلك، وعندما يبرز سؤال الواجب والمسؤولية الوطنية والاجتماعية، فإن فاعلية المجتمع المدني تبدأ لاستعادة التوازن وتحقيق الاستواء الاجتماعي ووضعه عند مساره المتقدم، بينما يتصدى القطاع العام لصيانة الطابع السلمي والانصياع للقانون. ولم يكن في الوسع السيطرة على جموح الاقتصاد الرأسمالي الذي يقوده قطاع الأعمال، والحد من ميوله الطبيعية إلى اعتصار الموارد واستغلال البشر لتعزيز توسعه، كما لم يكن ممكناً الحد من الشهية المتفتحة للسلطة بحكم تكوينها ونزوعها الطبيعي للاستبداد، قبل تبلور مفهوم المجتمع المدني في نطاق هيئات ومنظومات مالكة لنفسها وممثلة حصرية لمصالحها في إطار الأفق الكلي للمجتمع والدولة، وذلك في أعقاب تفكك الشروط الاجتماعية التي سبقت الاقتصاد الصناعي، واكتساح الروابط الاجتماعية الجديدة المتشكلة حول مراكز العمل بأدوار الهيئات الاجتماعية في العهود الزراعية والرعوية، وانتزاع صلاحيتها كوحدات حاضنة لمصالح المنتمين إليها، لأن الصراع الاجتماعي لم يكن منتجاً مبتكراً للاقتصاد الصناعي، ولكنه كان ولا يزال عنصراً رئيسياً في تحريك التاريخ ودفع البشرية عبر تعرجاته ومنعطفاته، ولقد وقف عاملاً حاسماً في قلب المشاريع الحضارية والثقافية الكبرى، إلا أن العقلنة التي حظي بها في العصور الحديثة، والاعتراف به كأحد بواعث الحراك الاجتماعي وعوامل الارتقاء بالمجتمعات، ومن ثمَّ العمل على احتوائه كفعل مشروع في نطاق النشاط الإنساني، لدرجة أصبحت فعاليات ما يعرف بالمجتمع المدني ومستويات أطره التنظيمية ومؤثراته مقياساً للتقدم، فكان طبيعياً أن تتنامى نزعة التجمع والتكتل لدى أصحاب المصالح والأفكار المشتركة داخل الأفق العام وضمن المقاصد النهائية للأمة، وعبر هذه التجمعات (المعقلنة) والواعية لمصالحها تم إزاحة التقاليد القديمة للصراع الاجتماعي، وودع التاريخ النزاعات الثورية وعبثية الأفكار الفوضوية وأشكال التمرد والعنف، من خلال الإدارة السلمية للحقائق المنتجة داخل التاريخ وإن بقيت غائمة في بساطة المجتمعات القديمة ذات التقاليد الزراعية أو الرعوية أو مجتمعات الصيد والالتقاط السابقة للمدنية، ولكن أسلوب الإنتاج الصناعي وظهور أسواق العمل، أبان خطوط الصراع الاجتماعي ووضع المؤجرين والآجرين على ضفتي العملية الإنتاجية، وكاد إهمال وتجاهل هذه الحقيقة ذات الطبيعة الصراعية أن يودي بمبدأ الأسواق الحرة الشامل للعمل والسلع والأموال ذي الأفق التصاعدي المفتوح، وهو ما عُرف بالاقتصاد الرأسمالي، إلا أن التجارب والأفكار البديلة لضبط هذه الحقيقة الاجتماعية والسيطرة عليها بإلغائها أو القفز فوقها منيت بالهزيمة وأخفقت في تحقيق الازدهار والرفاهية لشعوبها، في وقت كانت مجتمعات الاقتصاد الحر تقفز قفزاً على سلم الرفاهية المسنود بوعيها للشرط السلمي لإدارة أشكال التنافس والسجالات والصراعات الاجتماعية المنبثقة بالضرورة على خلفية المصالح. لقد جف فيض النماذج التنموية الذي غمر عقود القرن العشرين، وأصبحت خيارات التنمية متوقفة على مقدرة الشعوب في بناء الهيكلية الاجتماعية والسياسية المؤهلة لاستقبالها ورعايتها، وذلك بانتقال مركزية الهم التنموي من الدائرة الاقتصادية الصرفة إلى مركزية إنسانية تنفتح على أبعاد الاجتماع البشري ونوعية الحياة ومكانة الإنسان وتوزيع الأدوار بين تشكيلات المجتمع، وحدود الحرية والشفافية، ويتأكد الرهان على المجتمع كخيار وحيد لتحقيق التنمية بعد أن اصطدمت المشاريع المنشغلة بتنموية منفصلة عن البعد الإنساني بأفق مسدود، وأخفقت في إطلاق التحولات المنشودة لإرساء تنمية قائمة بذاتها، لأن مثل هذه التنمية تنهض فقط فوق قاعدة الأفراد الإنسانيين من الشركاء المتساوين والمالكين لأنفسهم. لم تكن سياسات التنمية في الكثير من بلدان العالم الثالث، قادرة على الارتقاء إلى مستوى الشمولية والتكامل الذي يضع البعد الإنساني والاجتماعي في صميم برامج العمل التنموي، كما لم تكن قادرة على التلاؤم مع ضرورات خلق البيئة الاجتماعية ومنحها الفرصة للتشكل وفق آلياتها الخاصة في التفاعل مع شروط التنمية وتأمين استمراريتها وتطورها، كان الأمر يعني انتقالاً ذهنياً نحو رؤية جديدة ومفاهيم تقبل التنمية على أنها مشروع للتغيير لا يتحقق داخل الدائرة الاقتصادية بقدر ما تتمظهر مؤثراته داخلها، إنه إجراء واسع يسري في مفاصل الأمم ويحركها نحو بناء مجتمع المساواة والقانون والمشاركة، الجدير وحده بإبداع وسائله الخاصة لإطلاق التنمية وإدامتها، في إطارات العمل المؤسسي المتناغم الذي يحتل الإنسان مركزه ويمثل صميمه. لقد قدمت التجربة الآسيوية القريبة درساً تاريخياً ثميناً، وسجلت عبر الانتكاسة التي ضربتها بعد أن ظهرت للوهلة الأولى مندفعة دون توقف في مسارها الاقتصادي، شهادة مجلجلة، على أن العمل التنموي هو تجاوز لحالة حضارية ينسحب على كامل الكيان الإنساني ويتناول مستويات الاجتماع البشري المعنوية منطلقاً نحو شؤونه المادية، يتركز في اعتناق رؤية جديدة للإنسان والمعاني الأساسية لدوره وموقعه، في التجربة الآسيوية أرغمت النكسة تلك الشعوب على حسم خياراتها، وتمكنت الدول الآسيوية من استعادة توازنها بعد أن هرعت إلى بناء السدود والموانع لصد تيارات الانهيار الجارفة التي زعزعت كياناتها ووضعتها في مهب الريح عند نهائيات القرن المنصرم، عادت إلى الأسس المبدئية للتنمية، المؤسسات والهياكل الاجتماعية والسياسية المؤهلة للتعامل مع التنمية كمشروع شمولي يتخطى الاقتصاد إلى الفضاء الإنساني الواسع، وهي مؤسسات لا تملك القدرة على الازدهار خارج شروطها في الاختيار والشفافية والمشاركة. وسبقت التجربة الآسيوية تجارب خاضت غمارها دول وامبراطوريات أوروبية، النازية في ألمانيا والفاشية في ايطاليا والشيوعية في روسيا، وأحكام عسكرية ودكتاتوريات في آسيا وجنوب أمريكا ذبلت محاولتها وتيبست لأنها لم تمد جذورها تستقي بالرافد الإنساني والاجتماعي، فرغم النمو الهائل والسريع الذي شهدته روسيا في ثلاثينيات القرن الماضي، على حد سيف الدكتاتورية الستالينية الدامي، فلقد شهدنا روسيا أكبر دول الأرض وأغناها بالموارد الطبيعية تترنح ذليلة على شفا الجوع في أواخر القرن نفسه ولم تلتقط أنفاسها إلا على أصداء بروز المؤسسات المدنية والرسمية في أجواء نسبية من الحرية وروح المشاركة.