يتحول مفهوم التنمية إلى مشروع انتقال حضاري وفق جهد تكاملي يتناول أبعاد الاجتماع الإنساني ويتوجه للارتقاء بالحياة البشرية في مجالاتها، وينطوي مصطلح التنمية المستديمة على إدغام النمو الاقتصادي بالفضاء الاجتماعي والإنساني الأوسع، المتعلق بإتاحة فرص العيش الكريم داخل مجتمع الخيارات والتنوع والمشاركة، وتصبح التنمية الاقتصادية عنصراً مساهماً يرتبط بأنماط الاستهلاك والإنتاج، تنطلق على قاعدته العملية التنموية الهادفة إلى خلق مشاركة اجتماعية وتوزيع عادل للخيرات وإقامة أفضل الروابط مع الطبيعة. إن تمهيد الأرضية الوطنية لاستقبال التنمية المستديمة، يقتضى الشروع في بناء المؤسسات القادرة على رعايته وتوفير العناصر الأساسية التي تمكن التنمية الاقتصادية لأخذ المنحى الشمولي الذي يتناول الإنسان ومحيطه الطبيعي، وتتمثل هذه العناصر في القطاعات الأساسية للمجتمعات الحديثة، القطاع العام، والقطاع الخاص، والقطاع الشعبي، أو ما يسمى بالمجتمع المدني. ولقد أكدت تجارب الشعوب أن كفاءة هذه القطاعات، وطبيعة العلاقة القائمة بينها تحدد نوعية الحياة ومستويات التقدم والازدهار، وإذ يمسك القطاع العام بالمبادرة في إطلاق خطط التنمية ووضع الأهداف طويلة الأمد للنمو، فإنه أيضاً يتملك القدرة على الانتقال بالعمل التنموي الاقتصادي إلى مستوى الشمولية والامتداد الموصل إلى ما أصبح معروفاً بالتنمية المستديمة، التي لا تبلغها سوى مجتمعات تتناغم داخلها التفاهمات بين الدولة بصفتها راعية وصائنة حصرية للأمن، وضابطة لإيقاع الحراك الاجتماعي، ودوائر الأعمال "القطاع الخاص" التي تنهض بإدارة الإنتاج ودفع مساره التصاعدي، وهيئات المجتمع المدني وتشكيلاته، المتشكل في سياقات المجتمع الصناعي، والمتصدي لمهام سابقه المجتمع الأهلي، حيث تتقرر وتائر النمو والتقدم على إيقاع العلاقة بين أطراف مجتمعات الرفاه والتنمية المستديمة عبر الفهم المشترك للمصلحة العامة والأهداف المحددة ضمن الغاية الوطنية العليا، في ظل المساواة والمشاركة وتعزيز الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، إلى جانب سيادة مبادئ الشفافية والمصالحة واحترام المساءلة كأساس للتقويم والمراجعة وإقالة العثرات. كما أن الصرامة في ضرب الفساد والحيلولة دون تشكله داخل منظومات ومفاهيم اجتماعية تكتسب صفة الأمر الواقع، قضية لا تحتمل التهاون لضمان شروط البيئة الصالحة لاحتضان التنمية المستديمة، بذلك فإن "التنمية" تأخذ بعداً إنسانياً يتخطى الجانب الاقتصادي نحو البنية الحضارية للاجتماع البشري، تصب عند إنسان يتمتع بحقه الأصيل في الحياة الكريمة. على خلفية هذا التحول في مفهوم التنمية الذي أصبح محدداً لمؤشرات النمو الاقتصادي، يكتسب التساؤل عن طبيعة الوظيفة، التي يشكلها القطاع الخاص في بلادنا، ومستويات انشغاله بالخط التنموي، وتوجهاته الاجتماعية، وجاهة وقبولاً، حيث يبدو مجتمع الأعمال في بلادنا متخلفاً عن الاضطلاع بدوره في التأسيس لمجتمع التنمية المستديمة، وعاجزاً عن تجاوز أهداف الربح السريع، أو الخروج من دائرة الأعمال التقليدية، والمقاولات والوكالات التجارية، وأنشطة الوساطة والسمسرة، ولم يكتسب روح الريادة، ولم تجد الاستراتيجيات طويلة الأمد وبعيدة الأهداف مكاناً بين الاتجاهات السائدة في أوساط قطاعات الأعمال الوطنية، وبذلك فهو مجتمع مقطوع الصلة بالمرامي والهموم الوطنية. إن هذه التساؤلات تنبني على محددات المصطلح السائد للتنمية المستديمة ومقومات ما يسمى بالحكم الراشد وهيكليته ثلاثية الدعائم: الدولة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، وهي لا تنتمي إلى الميول المتوترة لإدانة هذا القطاع، وإحالة الصعوبات المتولدة في سياقات المرحلة الحالية إلى عنقه، فيه أسئلة تحاول البحث في خلفية المواقف الموحية بسياسة هذا القطاع وتمسكه بمواقفه على الضفة الأخرى من الطموح الوطني، متمترساً وراء النتائج الباهرة التي حصل عليها في السنوات الخمس الأخيرة، بعيداً عن وظائفه الطبيعية في نطاق الخيار التنموي الوطني الاقتصادي والبشري وتبعاته، وتتقدم هذه الأسئلة زحمة مثيلاتها المتولدة في شروط المرحلة الحالية. ومع تفاقم الميول لاتهام القطاع الخاص بالمسؤولية عن إشكاليات مركبة ومتشابكة، مثل البطالة وغلاء الأسعار، حيث تكتسب هذه الأسئلة صفة الضرورة، في وقت يشهد عملاً دؤوباً لتحضير المسرح الاقتصادي لكي يحتل القطاع الخاص واجهته، وتؤشر الشحنة الإيمائية التي يحملها النزوع المتزايد لوضع القطاع الخاص في الجهة المقابلة للآمال الوطنية والمصالح العامة، إلى احتمالات التصدع الاجتماعي الذي يكتفي بإسناد سلبيات التنمية إلى هذا القطاع من دون غيره، ولكنه في حقيقة الأمر ينم عن قصور في فهم المرامي البعيدة لاستراتيجيات التنمية المستديمة، مما يتناقض والتفكير الرسمي الذي تمثل برامج الخصخصة، أحد جوانبه؛ لتمكين هذا القطاع من النهوض بدوره وتخليصه من سلبيته إزاء المرحلة التأسيسية الحالية التي تقودها الدولة منفردة. وإذا كان جائزاً أن نغض الطرف عن العوامل الثقافية الخاصة، فإن الميول الاتهامية التي تحاصر القطاع الخاص وسط الغلاء ومظاهر البطالة والتفاوت المعيشي، لا تعبر عن حالة استثنائية بقدر ما تشكل مظهراً للحراك الاجتماعي المتسارع، الذي يتحقق عبر مجريات متعددة، ازدياد نسبة المتعلمين، إمكانات الإثراء الكبيرة التي تتيحها شروط المرحلة، التكاثر السكاني، التواصل العالمي، من دون أن ننسى إسهام الأزمة المالية العالمية وفقدان السيطرة على التضخم، في ارتفاع النبرة الاتهامية التي شارك المسؤولون - ربما عن غير قصد - في تحفيزها. في الواقع فإن ظهور الأصوات المشبعة بروح الاتهام اتجاه القطاع الخاص، ليس إلا تجسيداً لظاهرة اجتماعية تعارف عليها علم الاجتماع الحديث بالصراع الاجتماعي، رافق نشوء الجماعة البشرية المتحضرة في مسارها التاريخي، وسيبقى جزءاً من حركتها وتطورها، ولقد كان هذا الصراع مختبراً هائلاً ومفتوحاً على التاريخ وحقب الأزمان، ظل تفاعل الأفكار والمناهج والنظريات الاجتماعية، وأنجب أكبر تطورات التاريخ، وليس المجتمع المدني سوى أحد منتجاته، فبعد أن استنفد المجتمع الأهلي القرابي إمكاناته في سياق تطور عملية الإنتاج وانتقال المجتمعات الأوروبية إلى العهد الصناعي تصدى المجتمع المدني للقيام بمهام سابقة. من هنا فإن إدانة القطاع الخاص، وإن كانت تصدر عن حتمية اجتماعية، إلا أنها فاقدة للمعنى والفاعلية في ظل التركيبة الحالية للمجتمع، ومبعدة عن وظيفتها في سياق الحراك الاجتماعي والمشروع التنموي المستدام، فاقدة للفاعلية؛ لأنها فاقدة لأدواتها، وفاقدة للمعنى لأنها تقع خارج بيئتها المتمثلة في التشكيلات والتجمعات المدنية، التي تنهض بمهام الحفاظ على السلم الاجتماعي واستعادة التوازن بين فئات المجتمع وشرائحه، والتصدي للاختلالات والانحرافات الناجمة عن الصراع الملازم لمجتمعات التنمية المستديمة ذات الأفق الإنساني والشمولية الحضارية. إن الاعتراض والنقد لا يعكسان بالضرورة مظهراً للتفكك، أو تمزقاً في النسيج الاجتماعي أو تخلخلاً في تمحور الفاعليات حول الأهداف العامة، ولكنهما قد ينحرفان إلى التهديد بزعزعة الاستقرار وتدمير المسار التنموي في غياب المؤسسات الاجتماعية العاملة على احتوائهما وتوظيفهما لتصحيح العمل التنموي، وإعادة دمج المعطيات الجديدة، ومنعكسات الحراك في منهجية العمل، وتجديد روحه وحيويته، بيد أن التسميات وحدها لا تصنع الحقائق بقدر ما تشكل - أحياناً - إعاقة لها، أو تستراً لتجنبها، وإذا كان العمل المؤسسي لا يثمر إلا وفق شروطه الموضوعية المتحققة في بيئة مؤسسية، وفي إطار حرية الاختيار والاستقلالية والتطور الذاتي، فإن (المؤسسة) تبقى رغم تسميتها (جهازاً) معلقاً بالمركزية الرسمية، فاقدة لقدرة توليد الطاقات الذاتية المتجددة، والمبادرة المسهمة في إثراء المشروع الوطني، في تناغم تكاملي باتجاه الأهداف العليا ومن أجلها، ولا ينعم العمل المؤسسي بسلاسة النشوء والتطور، إلا في بيئة اجتماعية ملتزمة بمبادئ الشفافية، وحكم القانون، وكفاءة التقاضي ونزاهته، وحق الاختيار والمشاركة على مساحات الاجتماع البشري الشاسعة، ومفاصل النشاط الإنساني المتشعب، في إطار الوحدة الوطنية والمصالح العامة. وعلى ذلك يتعين التخلي عن موقع الالتصاق برومانسية حالمة، تنعقد على تصور مجتمعنا سابحاً على سحابة من العطور في سماء جنة عدن، منزهاً عن ملابسات الحياة البشرية وجدلياتها، نحن مجتمع من المخلوقات الإنسانية، ندب على نفس الأديم، ونجتمع في إطار خصوصيتنا ولكن على الصفات والدوافع البشرية والبيولوجية والنفسية، التي تعرض للآخرين من أقراننا في الإنسانية، وإذ نجد أنفسنا في لحظة استثنائية من تاريخنا وسط الظواهر والعلامات المألوفة لغيرنا، التي عشنا بعيداً عنها في مرحلة من مراحل تاريخنا، فلأننا أخذنا نتحرك بعد سكون غيب زمننا ولفنا في عالم الصحراء الصامت، قروناً وقروناً، وكغيرنا لا نذهب بإرادتنا نحو سلبيات الحركة، ولكن هل من حركة من دون عادم؟؟ وما يسمى بالصراع الاجتماعي كغيره من ظواهر الانحراف واختلال التوازن أحد (عوادم) الحركة بين أمور كثيرة أخرى، وليس من سكون في التاريخ أو الكون، ولا خيار عن التحرك هبوطاً أو صعوداً. (الموضوع له صلة)