رفض الثراء والقصور، بعد أن حصل على الدكتوراه من جامعة كالفورنيا الأمريكية (بيركلي) .. رفض العمل عضو هيئة تدريس في الجامعة في مجال تخصصه الذي تفوق فيه، مع كثرة العروض من جامعات مرموقة.. وعاش في كوخ صغير كثيراً ما تنقطع عنه الكهرباء، ولا يجد حاجته من الماء.. بجانب كثرة البعوض الذي يمتص دمه والحشرات السامة القاتلة التي تهدده حول كوخه. من يا ترى يكون هذا؟ ولِمَ يعيش هكذا؟ الجواب: إنها المبادئ التي تملأ نفوس بعض الناس كما يرونها فاعلة للخير، محققة للعون، مساعدة في رفع الشقاء والعوز. @@@ جمعتنا دعوة من أحد زملائي أساتذة الجامعات الأمريكيين لزيارة في منزله، فحين كنت أستاذاً زائراً في جامعة كالفورنيا قدِّر لي أن ألتقي بأناس كثيرين من جنسيات مختلفة، وكان أكثرهم أمريكيين.. في هذا اليوم - في زيارة هذا الصديق كان ضمن المدعوين رجل في الأربعين من عمره.. وكما هو الحال في لقاء الضيوف أن يتبادلوا الحديث، ويتم التعارف.. وتشعب الحديث بيننا.. كل منا يتحدث عن عمله، ومجال تخصصه، وما يلقاه من المواقف النادرة في حياته.. ولما جاء الدور على هذا الرجل الوسيم شكلاً، المتأنق ملبساً.. عرفت منه أنه كان زميلاً في الدراسة للضيف الذي نحن في بيته، وأن كليهما حصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها. لقد صار المضيف عضو هيئة تدريس جامعي مرموق، وتدرج إلى أن نال رتبة أستاذ في جامعة كالفورنيا "سانتا باربرا الأمريكية". أما هذا الرجل فقد حدثنا حديثاً عجباً، وأسمعنا من حاله ما قد يملأ النفس عليه غضباً - لكنه غضب يزول بعد معرفة حقيقته.. لماذا؟ اسمعوا .. واحكموا بعد ذلك، وأنصفوا.. إثر حصوله على شهادة الدكتوراه بامتياز.. عُرض عليه العمل في أكثر من جامعة.. لكنه أبى، وطلبت إليه أسرته الغنية التي تملك إحدى كبرى الصناعات أن يعمل معها لكنه أيضاً أبى .. وسلك طريقاً آخر مختلفاً كل الاختلاف.. @@@ قال: رأيت أن أذهب إلى بلد إفريقي لأقوم بعمل إنساني فريد، طموحي يدفعني إلى أن أرى أثري في الناس وإسعادهم.. لهذا قمتُ بجولة في أقطار إفريقيا كافة، واستقر بي المقام في السودان. وأنا الآن في زيارة لوطني، ليست للنزهة، ولكن لجمع أموال أساهم بها في تخفيف آثار المحنة التي تعرضت تلك البلاد لها بسبب الجفاف. @@@ عندها خطر ببالي أن هذا داعية مسيحي، يريد نشر عقيدته هناك من وراء الستار المادي - كما هو الحال في كثير من البعثات التبشيرية المسيحية. فحدثته بذلك صراحة على مسمع من الحاضرين، وسألته سؤالاً صريحاً مباشراً: هل نجحت في أن يعتنق كثيرون الديانة المسيحية؟ ضحك الرجل.. وضحك معه الآخرون الذين يعرفونه.. قال: إنني لا شأن لي بالأديان كلها.. ولا دخل للأديان والعقائد فيما أعمل.. إنني لم أذهب طول عمري إلى كنيسة، أو أدخل منذ ولادتي حتى اليوم معبداً.. @@@ عجيب .. عجيب .. شعرت بالعجب والاندهاش من هذا الرجل الذي يطوف الدنيا رغبة صادقة في مساعدة المعوزين، ودفع الضرر عن المكروبين.. ولولا أن الحاضرين أكدوا لي ما قاله ما كنت صدقته أبداً.. وسألته عن ظروف معيشته وحياته هناك.. فوصف لي مسكنه وتقشفه.. في هذا البلد الافريقي، وأن أكثر ما يعاني منه هناك ليس انقطاع الكهرباء المستمر، ولا انقطاع المياه في منزله، وإنما كثرة البعوض الذي يمتص دمه، ويزعج نومه. ومع كل هذه المنغصات كان يحكي بلذة وسعادة بهذا العمل الذي يزاوله.. عندئذ.. ولما بدا عليّ من الاندهاش الشديد، وكأنني مازلت غير مقتنع بهذا الذي سمعته، قال لي مضيفي: هل ترغب أن تزور قصر والديه في إحدى مدننا الأمريكية - لترى البون الشاسع بين حياة أهله وحياته، هو التي وصفها حقيقة لنا.. @@@ وواصل مضيفي الحديث قائلاً: أنا في عجب من أمره مثلك.. لقد ألحت عليه جامعات كثيرة منها جامعة (أوهايو الأمريكية) وأغرته أن ينضم إلى القسم العلمي عضو هيئة التدريس فيها - لكنه أصر على موقفه الذي عرفناه. @@@ وحين ازداد تعجبنا من حاله هذا - قال: لا تتعجبوا، فلقد قابلت في أماكن عدة من البلدان الافريقية متطوعين أكثر مني حماساً.. ومن بلاد الغرب أيضاً.. وذكر لنا أن هناك بعضاً من الأطباء، والممرضين، والممرضات، يعملون في هذا البلاد.. وتوقف عند وصف ممرضة من بلاد السويد واصفاً حسنها وجمالها، وكمال أخلاقها.. مع شدة سعادته بالعمل في رواندا الافريقية.. دون مبالاة بقسوة الحياة هناك.. اجتماعياً وطبيعياً.. مناخاً وتخلفاً.. وأضاف .. وقد تكون لبعض هؤلاء المتطوعين أهداف تبشيرية؛ لكني أعرف البعض الآخر - وهم الأغلبية - ليست لديهم هذه التوجهات الدينية، إنما هي قناعات إنسانية بالأعمال النبيلة - ومساعدة ذوي البأساء والكوارث الطبيعية في أي مكان في العالم. @@@ هذه قصة دكتور شامخ في علمه، وتخصصه، أبى إلا أن يكون فاعل خير، وناشر فضل في أي مكان يرى أنه في حاجة لفعله.. رجل يدعي أنه لا يتقيد بتعليمات أي دين من الأديان السماوية، ولا هو متعصب لواحد منها.. لكنه يفعل ما تمليه هذه الأديان السماوية من خدمة البشرية.. وتخفيف آلام الإنسانية.. أقارن ذلك ببعض من في بلادنا العربية الذين أصابتهم الشهادات بالغرور والمناصب بالصلف والكبرياء، أو من هم ظنوا أن هذه الشهادات العليا هي غاية الطموح، ومنتهى المطلوب.. @@@ أفيدوني بعلم... وخلصوني من عجبي.. لماذا؟ ماذا لو انبرى كل واحد منا ذات مرة للذهاب إلى قرية أو بلد من آلاف الأماكن في بلادنا ووطننا العربي... وقام بجولة شخصية تطوعية لعلاج أو تعليم.. أو تخفيف آلام لأصحاب هذه البلاد.. أريد أن أشاهد يوماً كوكبة من علمائنا عقدوا العزم على القيام ببرنامج خاص فيما تخصصوا فيه عطاءً مخلصاً، ومشاركة نبيلة. أفيدوني.. مع كثرة ظهور الفتن والشرور في حياتنا المعاصرة.. ألا يجد الإنسان منا فرحة أن يكون في البشرية مثل هذا الرجل.. أو هؤلاء الأطباء بلا حدود.. وما أحرانا نحن المسلمين بهذا السلوك الذي تدعونا إليه تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف.. @@@ وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدِنَا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.