باتت "سوق النشالين" بنواكشوط تشهد ازدهاراً كبيراً في المواسم والأعياد؛ حيث يتناسب ارتفاع الجريمة تحت ضغط المناسبات الاجتماعية طرداً مع ازدهار هذه السوق، ففي الأعياد وبداية العام الدراسي تكثر البضائع بسوق النشالين وتستقبل المحال أعداداً كبيرة من الزبائن الباحثين عن فرصة اقتناء البضائع بأثمان بخسة، ورغم علم الزبون بمصدر هذه السلع إلا أن انخفاض ثمنها يغريه بشرائها. وبينما تسجل مصالح الشرطة ارتفاعاً في نسبة جريمة السرقة خلال الأسبوع الذي يسبق الاحتفال بالعيد أو الاستعداد لموسم الدراسة أو العطلة الصيفية؛ حيث تفرغ المنازل من ملاكها، مما يساعد على سرقتها، تعرف هذه السوق حركة نشطة وتدب الحياة في دكاكينها التي تزدحم بالزبائن بينهم من يزورها لأول مرة بعد الشهرة التي حققتها، ومن يبحث عن بضائع ثمينة معروضة بأسعار متدنية، ومن بين رواد هذه السوق كذلك أشخاص تعرضوا للسرقة يقصدونها بحثاً عن أثاث أو أجهزة كهربائية سرقت من منازلهم حديثاً، وهم بالطبع يبحثون عنها ليس لاستردادها مجاناً بل لشرائها من باعتها حتى ولو كان هذا البائع هو من اقتحم المنزل أو دبّر عملية السرقة، وهو على كل حال ينكر بيعه لأشياء مسروقة حتى لو تطابقت أوصاف ما يبحث عنه الشخص الذي تعرض للسرقة مع ما يبيعه "التاجر". استرداد المسروق بشرائه يقول عبد الله التلموذي ( 33سنة موظف) إن منزله المهجور على أطراف العاصمة تعرض للنهب والسرقة من قبل شخصين حسب ما ذكر حارس المنطقة الذي فوجئ بهما ينقلان أثاث المنزل إلى شاحنة مدعياً أن مالك المنزل باعه وأمرهما بإفراغه، ويؤكد عبد الله أنه وجد جهازي تلفزيون وغسالة وسجادة تباع في السوق، ولم يستطع استرجاعها بواسطة الشرطة؛ لأنه لا يملك دليلاً يثبت أنها في المنزل المسروق؛ لكنه اشتراها من بائعها بثمن متدن جداً، ويقول "كل ما يهمني هو استرداد ما سُرق؛ لأن البائع أو المشتري لا يعرف قيمة هذه البضائع، فالأول كل ما يهمه هو تحقيق هامش ربح والتخلص سريعاً من البضاعة قبل اكتشاف الأمر، أما الثاني فينتهز الفرصة لتخفيض السعر". وختم حديثه بالتأكيد على كل من يسُرق منزله يجب عليه زيارة هذه السوق؛ لأنه سيجد مقتنياته تباع هنا. مبررات لا تقنع أحداً لكن محمد سالم ولد المحفوظ (بائع بالسوق) يرفض مبدأ إلصاق تهمة السرقة والانتهازية بالسوق، ويقول إن "هذه سوق الفقراء تبيع أشياء فاضت عن حاجة أصحابها أو وجدت ملقاة في الشارع وفي القمامة وبعد إصلاحها وتنظيفها تصل إلينا ونعرضها بثمن بخس". ويضيف نحن نقدم حلولاً لمشاكل الناس؛ لأننا نبيع بأسعار متدنية أشياء ثمينة لا يستطيع الفقير شراءها رغم حاجته إليها، كما أننا نشتري أشياء من أشخاص مغلوب على أمرهم يضطرون تحت ضغط الظروف إلى بيع مقتنياتهم، وقبل هذا وذاك هذه السوق مفتوحة لاستقبال الشباب العاطل عن العمل والمشردين وكل من يبحث عن لقمة عيش شريفة. إلا أن الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان في موريتانيا أن نسبة كبيرة من تلك المعروضات داخل هذه السوق، هي أشياء مسروقة بالفعل؛ حيث تشير سجلات الشرطة إلى أن العديد من المسروقات ضبطت في محال تجارية بهذه السوق. وربما لذلك يرفض بعض المتبضعين في أسواق أخرى داخل العاصمة نواكشوط زيارة هذه السوق. قوانين خاصة وتخضع هذه السوق لقوانين خاصة ويتحكم فيها كبار تجار المنطقة، الذين يُسيرون العمل داخلها ويمنحون تراخيص خاصة لأصحاب الدكاكين والبسطات وحتى الباعة المتجولين، ولا تخضع هذه السوق لسلطة إدارية ولا يلتزم تجارها بدفع ضرائب للدولة، وبينما يتنافس صغار تجارها على الفوز بصفقات شراء مقتنيات مسروقة من عصابات السرقة ينعم كبار التجار بامتيازات عدة مكنتهم من تكديس ثروات هائلة. وقد دفعت قصص كفاح هؤلاء التجار الذين انطلقوا من الصفر وحققوا أرباحاً كبيرة، الشباب إلى تقليدهم حتى لو كان الوصول إلى ما حققوه يمر عبر احتراف السرقة وتكوين عصابة إجرامية، فغالب تجار هذه السوق لهم سجل سوابق، ورغم ذلك فهم يبيعون بضاعتهم، والتي غالباً ما تكون مسروقة بكل حرية ودون أن يضايقهم أحد. وتمتلأ سوق المسروقات بنفائس الفن والتراث؛ حيث يزورها بين الفينة والأخرى سياح ومهتمون بالآثار لاقتناء لوحات وآثار نفيسة، ولا يبدو للزائر العادي أن هذه السوق تحتوي على أشياء ثمينة كالآثار؛ لأن الباعة لا يكشفون عن كل ما لديهم خوفاً من الملاحقة ويعمدون إلى إخفاء الآثار إلى أن يسأل عنها الزبون. صفقات مع اللصوص وتبيع هذه السوق كل ما يمكن أن يخطر على البال، مثل الأثاث والملابس والأحذية والأدوات الكهربائية وقطع غيار السيارات والمواد الغذائية والأجهزة الإلكترونية الحديثة من كمبيوترات وجوالات وكاميرات الفيديو وغيرها، حتى الأدوية والهويات المسروقة من بطاقات وطنية وجوازات سفر تباع في سوق النشالين. وتقتحم دوريات الشرطة هذه السوق غير النظامية بين الفينة والأخرى لضبط المسروقات أو بحثاً عن المطلوبين، ورغم أن هذه الحملات تعكر صفو التبضع في السوق؛ إلا أن الباعة باتوا يتعايشون مع هذا الوضع فزيارة الشرطة لا تؤرقهم والحبس الاحتياطي لأيام لا يربك حساباتهم؛ لأنهم يدركون أن سقوط لص في يد شرطة يعني الإبلاغ عنهم واتهامهم بشراء مسروقات والمشاركة في السرقة؛ لكن غالب القضايا التي تثار ضد التجار يتم حفظها، وهنا يأتي دور كبار التجار الذين يعقدون صفقة مع اللص ليتراجع عن أقواله ويقر بأنه باع المسروقات للتاجر دون أن يخبره بحقيقتها، ويذعن اللص لطلبات التجار خوفاً من انتقامهم وتجنباً لرفضهم شراء مسروقات منه مستقبلاً، وإبلاغ غالب التجار بذلك على اعتبار أن التجار يفضلون اللصوص المخلصين ويشهّرون بالفتّانين في أوساط باقي التجار. ورغم الخطورة التي تنطوي عليها هذه تجارة سوق النشالين؛ إلا أن التجار يتمسكون بها ويعتبرون أنها الطريق الوحيد للخروج من الفقر والتهميش الذي يعانون منه. ويعتمد التجار في توريد بضاعتهم على اللصوص والنشالين بالدرجة الأولى ثم يأتي في المرتبة الثانية بائعو الخردة وجامعو القمامة. نشل الزبائن ويستغل اللصوص الغياب الأمني في هذه المنطقة لنشل الزبائن داخل السوق؛ لاسيما إذا لاحظ أحد المتربصين بالمارة من الأطفال المشردين أن الزبون يحمل مبلغاً مالياً كبيراً أو هاتفاً محمولاً من النوع الجيد، والغريب أن من يتعرض للسرقة داخل هذه السوق لا يبرح المكان قبل أن يسترد ما نهب منه، بشرط أن "يُرضي" السارق بمبلغ مالي يتم الاتفاق عليه بينهما عبر وسيط يدله على مكان هذا اللص، ومن خلال هذا الحوار الغريب بين السارق والمسروق يتمكن الأخير من استرداد المسروقات خلال دقائق قليلة. ويقوم بعمليات السرقة التي تتم داخل السوق صغار النشالين الذين يدفعهم الإدمان على المخدرات على نشل الزبائن، فعند حلول موعد استهلاك المخدر وأمام عجز المدمن عن مقاومته أو تأمين مال لشراء المخدر يقوم بسرقة أي شيء لتلبية حاجته، مما قد يوقعه في ورطة أو جريمة؛ حيث تشير سجلات الشرطة أن النسبة العظمى من سارقي حقائب النساء في الأسواق والهواتف النقالة ومعترضي سبيل المارة من المتعاطين للمخدرات، وغالباً ما يكون سبب السرقة هو توفير مصاريف الإدمان. وساعد ازدحام السوق ووعورة المسالك إلى تحول جزء منها إلى بؤر للجريمة المنظمة ونشاطات مشبوهة، مما دفع الأسر التي تعيش داخل السوق إلى المطالبة بتنظيف المنطقة وتطهيرها وتجفيف منابع الجريمة فيها، وفرض معايير على التجار تلزمهم برفض اقتناء بضائع من أشخاص لم يثبتوا ملكية الأشياء التي بحوزتهم.