جاءني وهو يعول، ويولول ويرتجف.. قلت ما بك..؟ قال: رأيت رؤيا عجيبة، قلت: وما هي معاذ الله.. قال: رأيت الدنيا تغيرت وانقلبت.. قلت: إن الدنيا يمكن أن تتغير ولكنها لا يمكن أن تنقلب، فاستشاط غضباً وقال: أنا أجدّ، وأنت تمزح وتهزل، قلت له: لا أبداً أبداً لا أهزل.. أكمل أكمل قال: رأيت الأسود أبيض، والأبيض صار أسود، ورأيت الليل صار نهاراً والنهار صار ليلاً.. ورأيت الأسود صارت قروداً، والقرود صارت أسوداً، ورأيت النمور تحولت إلى قطط، والقطط تحولت إلى نمور، والأحصنة تحولت إلى حمير، والحمير تحولت إلى أحصنة، ورأيت غرباناً تحولت إلى صقور، وصقوراً أصبحت غرباناً، بل رأيت ما هو أسوأ من ذلك، رأيت الأذكياء أصبحوا أغبياء والأغبياء أصبحوا أذكياء، ورأيت التافهين صاروا وجهاء، والوجهاء صاروا حقراء، ورأيت الفرسان صاروا جبناء، والجبناء صاروا فرساناً، ورأيت الأمناء صاروا لصوصاً، واللصوص زادوا لصوصية.. ورأيت أن المخلصين والأوفياء أصبحوا مجالاً للشك والريبة، والذين يشك في أمرهم أصبحوا مقربين موثوقاً بهم، ثم رأيت الجويهل صار مثقفاً بل ومن الكرام الكاتبين!! والمثقف الحقيقي صار في عداد الجاهلين، أما العروبة فقد رأيتها وقد أصبحت عاراً، والشعوبية صارت مفخرة.. بل صار الكيد للعرب عند بعضهم مذهباً على حد قول الشاعر القديم نصر بن سيار: فمن يكنء سائلاً عن أصل دينهمُ فإن دينهمُ أن تُقتل العربُ واستمر مريره قائلاً: ثم رأيت في حلمي - والعياذ بالله - أن بعض المحسوبين على الدين تحولوا إلى أهل دنيا فأصبحوا يبيعون ويشترون في كل شيء، وعلى كل أحد وفي كل سوق!! ثم إنني رأيت أقواماً معهم رماح وأسهم، وحولهم صناديق ضخمة، فيدعون الناس ويغرونهم كي يضعوا أموالهم فيها، فإذا وضعوها، أحرقوها، أو سرقوها، أو هكذا يفعلون.. ثم رأيت عجوزاً قد تساقطت أسنانها، ووهنت عظامها، وعمي بصرها، وتداعت أعضاؤها، وهي تتوكأ على عصا هشة، وتكاد تسقط من الوهن، فقلت من هذه؟! فقالوا: الأمانة والمسؤولية!! ثم رأيت أقواماً خبثاً، في أيديهم قنابل موقوتة، يدفنونها في طرقات الناس ودروبهم، بعض هذه القنابل على شكل أقلام، وبعضها على شكل أجهزة ملونة، يزرعونها بخبث ومكر، ويزعمون أن ذلك من أجل مصلحة المجتمع، والوطن، والدولة، والأمة..!! ورأيت أناساً يستمعون، وينصتون، لكنهم واجمون صامتون، ولا أدري أهم يفهمون، ويعون ما يسمعون، ويشاهدون..؟! أم أنهم صم بكم عمي فهم لا يفقهون؟ وأخذ يستطرد في حديثه وهو مندفع.. فهممت أن أضع يدي على فمه وأطلب منه السكوت، لكنني لم أفعل، ثم قلت: ويحك أمن أجل هذا تصيح وتنوح، وتدعو بالثبور وعظائم الأمور.. نظر إلي بعينين فزعتين مذهولتين. وقال: أو تظن أن هذا سهل.. أو تظن أن هذه رؤيا حميدة تدعو إلى التفاؤل والفرح؟ إنها رؤية مفزعة ومفزعة جداً، وتدعو إلى القلق، والخوف، والرعب.. ثم أردف قائلاً تصور.. تصور لو أنك ن فسك رأيتما رأيته أنا!! فلن تصاب بالرعب والفجيعة؟ ضحكت من أعماقي وقلت "صح النوم" أيها المسكين فأنت فعلاً ما تزال نائماً..