كان الفنان العالمي سلفادور دالي يستمد موضوعات لوحاته من الأحلام، ومعروف عنه أنه إذا همّ بالنوم وضع إلى جواره لوحة فارغة وأدوات الرسم كي لا يهرب منه الحلم.. ولابد أن المهتمين بالابداع الفني قد توقفوا كثيراً عند تلك الظاهرة مع سؤال كبير عن مهمة الفن، هل الفن يرصد الحياة ويعدل من شوائبها، أو يصورها كما هي، أم يبالغ في إظهار مثالبها؟ وبطبيعة الحال لا يدخل سلفادور دالي ضمن هذه التساؤلات، فهو قد ترك الحياة وما فيها ولاذ بفرار شارد إلى عالم الأحلام، من أجل أي شيء. يقولون ان للفن عالماً آخر يتوازى مع الحياة ذاتها لكنه لا يلتقيها، هل معنى ذلك أنه يقدم البديل الأروع إذا ما ضاقت بالإنسان حياته؟ فإن صح هذا بقيت الكلمة المحيرة "البديل"، فهل كان العبقري دالي يسعى إلى تأكيد هذه الفكرة؟ فكرة أن الفن مفروض أن يقدم متعة المحال لا بديل الحياة ولهذا لجأ إلى أحلامه وليته ما فعل فكلها تغص بالكوابيس..! أذكر لوحة عالمية كنتُ قد رأيتها من سنوات لكنني نسيت مَن صاحبها، ليس في فضاء اللوحة إلا جدران منزل جديد لا أثر لأي شيء بينها، وأمام أحد الجدران شاب وفتاة أغلب الظن أنهما عروسان جديدان، وقفا يتعاونان في تأثيث البيت، والتأثيث ليس بنقل أي شيء إليه وإنما بفرشاة ووعاء الألوان. لقد حددا كل احتياجاتهما ووقفا يرسمانها على جدار فارغ، رسما فرناً للغاز وثلاجة وبعض احتياجات مطبخ حديث.. لا أعرف عنوان هذين العروسين وإلا لذهبت إليهما لأرى كيف سيقدمان لي القهوة في فنجان مرسوم على ورقة بيضاء، وربما في ظهرها رسم لمائدة حافلة بالطعام..! هذا وهم جميل بلاشك في لحظته الأولى، مؤلم وموجع في اللحظة التالية مباشرة، لأنه في أحسن حالاته يطلعنا على حلول لكنه لا يقدم واحداً منها.. لا أنفي عن الفن أهميته، الجمالية خاصة، وربما فيما قد يحمل من رسائل لها وظيفتها الاجتماعية أيضاً، ولكن قناعتي الخاصة أن الفنون لا تجد عصورها الذهبية إلا في مجتمعات الوفرة والرخاء.. ما شدني إلى هذا الحديث كله أنني قرأت مؤخراً تقريراً يقول ان موجة عالمية لغلاء الأسعار ستستمر في تصاعدها حتى العام 2015م، علينا أن نعد أنفسنا لها من الآن، فإذا كنا من المناصرين لقيمة الفنون الجميلة ومبدعيها علينا أن نضعهم أمام مسؤوليتهم التاريخية، ليملأوا لنا لوحاتهم بالخبز إلى أن تنتهي أزمة الخبز التي احتدمت في بعض البلدان، وبحقول الأرز إلى أن يباع الأرز بالمجان، وقد يبتكرون لنا - مثل دافنشي - آلات طائرة بلا وقود، تضعنا جميعاً في مجتمع إنساني واحد لا يعرف حدوداً جغرافية أو سياسية ولا فروقاً اقتصادية قاسية، وإنما ينعم الكل - خاصة في المجتمعات الفقيرة - معاً بأكل رغيف العيش على رائحة شواء لا أحد يعرف مصدره، ويدفع الأجر رنين عملة معدنية واحدة لا يتعدى استخدامه لها حدود الرنين...