كانت مع صغيرها الذي لم يتجاوز الثامنة من عمره يتناولان الطعام معا في طاولة قريبة منا في مطعم مليء بالزبائن، يرتفع صوت ابنها بالحديث عن أحداث يومه وعن ملاحظاته على ما يدور حوله وعن أصدقائه تنشغل عنه بتناول الطعام أو بالحديث عبر الهاتف، تبدو متململة وكأنها تقوم بواجب مرغمة عليه، وهو مستمر في الكلام يبدأ جمله بكلمة (ماما) ويتحدث في كل شيء وعن أي شيء فهو سعيد لأنه يقضي هذه الساعة مع أمه. لعل كلام هذا الصغير متكرر، لعلها ملت من صحبته وربما تحتاج لبعض الوقت بعيدا عنه، تأمره بأن يسرع في تناول طعامه ولا يتلكأ لأن لديها مواعيد. سيكبر هذا الصغير سريعا ويصبح مراهقا وشابا مشغولا بأصدقائه وحياته وقد تندم هي لأنها لم تتمتع بصحبته حين كان متفرغا لها وحين كان يتطلع إلى صحبتها والحديث معها، هذا ما قالته إحدى صديقاتي التي وصفناها بالحكمة لأن تعليقها هذا جعلنا نفكر في أشخاص كثر ننشغل عنهم فقط لأنهم الأقرب فقط لأنهم موجودون دائما في حياتنا! في مراهقتك تبحر بعيدا عن أقرب الناس إليك، وفي محاولة بحثك عن الاستقلالية فإنك قد تبتعد عن والديك وتنشغل بأصحابك. في شبابك تزداد مشاغلك، الدنيا كلها ملء يديك والوقت في صالحك لا يشكل مرور الزمن خطرا فهو يقربك من أهدافك .. وقع الحياة في هذه السن مختلف وأنت قد تنشغل بأصدقائك (الشلة) عن صحبة اخوتك مثلا. قد تستيقظ من انشغالك فجأة وتجد أن الصغار قد كبروا وتغيروا، وأن الكبار قد شاخوا ومرضوا وتعبوا أو حتى رحلوا، لم تعد ملامحهم هي الملامح التي تتذكرها، ولم تعد أنت حتى تتذكر تفاصيلهم التي كنت تحسب أنك تعرفها ولا تجهلها، فالصغير لم يعد ينتظرك حتى تأخذه للمدرسة كل صباح والكبير لم يعد يتحدث عن أخبار كرة القدم بل هو مشغول بحبوب القلب ونتائج التحاليل المخبرية ومواعيده مع الطبيب، قد تتساءل متى كبر الصغار، وكيف شاخ الكبار؟ وقد تندم لأنك لم تستغل الوقت في معرفتهم أكثر حين سنحت لك الفرصة، لأنك كنت تظن ساذجا أو جاهلا أن لاشيء يمكنه أن يتغير حولك وأن الأشياء دائما تبقى على حالها، وتنسى أن البشر ليسوا مثل أغراضك الشخصية التي تركنها جانبا لتعود وتجدها حيث تركتها وكما كانت، بل يتغير حالهم كما تتغير أيامهم.