في بعض اللحظات الساكنة وخاصة وقت الليل حينما يكون الكون من حولنا هادئًا وصامتًا نشعر بأن ثمة أشياء تحدث في هذه اللحظة في أرجاء الكون، وربّما تكون غريبة أو طريفة أو مزعجة. وبمجرد وصولنا إلى مثل هذا الشعور تتولّد لدينا رغبة في المعرفة، وهي معرفة تبدأ محددة بأشياء معينة ولكنها لا تلبث أن تصبح رغبة عامة في المعرفة. وبعضنا يجد نفسه مدفوعًا لتناول كتاب ثم يبدأ بالقراءة، ولو كان الكتاب قصة فإنه بعد فترة من القراءة في ذلك الكتاب الجامد نجد أناسًا تشعر مثلنا وتتحرك وتتكلم، وفجأة يمتدّ تأثيرها فينا فنعيش معها ونشاركها انفعالاتها وآمالها، وربما تفاقم الانفعال لدينا أكثر ممّا هو لدى تلك الشخصيات. عند هذه النقطة يمكن أن نقف ونسأل: ماذا يحدث لنا الآن؟ إنّ عملية ذهنيّة قد بدأت عملها، وربما أتمّته بجدارة، وهي الانفصال بين الأنا الجسديّة (وهو أنا الجالس على المكتب أو المستلقي على الكنبة أو السرير) وبين الأنا الخيالية (تلك التي راحت تطوف البلدان وتسمع وترى وتحسّ...). لنترك الآن الأنا الجسديّة ونبقى مع الأنا الخيالية التي انفصلت عن مركزها. ويجب أن نقرر هنا أن عملية الانفصال ليست عملية سهلة، إذ تخضع لعدة اعتبارات، لعل أهمها هو طبيعة القارئ نفسه من حيث استعداده النفسي والعقلي للقراءة، ثم المادة المقروءة، وعلاقة القارئ بها. هذه الاعتبارات ضرورية لقيام انفصال الأنا؛ وهو انفصال يؤكد اندماج القارئ مع القصة، فتصبح الأنا متلبّسة بإحدى الشخصيات بكل تجلياتها النفسية والعقلية. إن هذا الاندماج ليس اندماجًا عاطفيًا فحسب، بل هو ارتباط منطقي مع كل عناصر القصة، فتجدك ترى وتسمع وربما تتكلم وتصرخ وتحسّ بالبرد وبالحرّ، كما تشم روائح الأطعمة، وتصغي إلى صوت الريح الخفيفة على سعفات النخيل وتتجنب سماع أصوات المصانع والصخب. وتزداد نبضات قلبك سرعة وربما تشعر بالخوف والهلع كلما تقدّمت مع القصة التي ترى فيها شخصيتك (الأنا الخيالية) تسير نحو الهاوية. حتى إذا انتهت القصة، عاد الوعي إلى (الأنا الجسديّة) التي تشعر بخمول. وربما تدرك لأول مرة أَنك قد خلعت النظارة عن عينيك أو أنك أبعدت شماغك أو طاقيتك عن رأسك، وربما سقط القلم الحبر المفتوح على ثوبك ولوثه. كل هذه الأفعال حدثت للأنا الجسدية حينما كانت مسافرة مع الأنا الخيالية ولم تشعر بها لانشغالها بأحداث أهمّ، والآن أدركت الأنا الجسدية هذه الأفعال بسبب تلاحمها مع الأنا الخيالية العائدة من الرحلة. إن فترة الخمول التي تعقب الانتهاء من قراءة القصة تمثل لحظة عودة الأنا الخيالية إلى الأنا الجسديّة. ولأن الاتصال لن يحصل بسهولة بسبب التغيّرات التي طرأت على الأنا الخياليّة العائدة بتجارب وهمية وعواطف ومعارف لم تكن لها قبل القراءة؛ ولهذا فهي بحاجة لتفاعل الأنا الجسدية معها. وحينذاك يحدث التلاؤم بينهما، مع ملاحظة أنَّ الأنا الجسدية سوف تنشغل مجددًا باستعادة أحداث القصة واستذكار تفاصيلها ومحاولة تحليلها باستخدام النقد والحكمة في قمة الشعور. ومن هنا يجد القارىء أنه استطاع إماطة اللثام عن الدلالة العميقة لما يحدث مع ربطها بحياته وواقعه، ويشعر بلذة مضاعفة. وهي لذّة قد تُولّد لديه خوفًا حين يجد أنّ أوهامًا كثيرة ونزوات طارئة، بل ومزيدًا من الغموض يكتنف هذه الحياة التي يعيشها.