سياسة العودة للمتوسط ترافقت مع مسعى نشط لتطوير الأسطول البحري الروسي، وإعادة دوره في البحار والمحيطات العالمية، حيث قام هذا الأسطول في الأشهر الأخيرة بسلسلة من التدريبات في المحيطين الأطلسي والمتجمد الشمالي ؟ أجل، لقد عادت روسيا إلى البحر الأبيض المتوسط، لتبلغ حلماً راودها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد ترافقت هذه العودة مع مسعى نشط لتطوير الأسطول البحري الروسي، بما في ذلك العمل على بناء ست من حاملات الطائرات، في غضون العقود الثلاثة القادمة، والتواجد في المحيطين الأطلسي والمتجمد الشمالي. تشير التقارير الروسية بأن موسكو قررت إرسال عدد من قطعها البحرية لتتواجد بصفة دائمة في البحر المتوسط. ودعا المخططون الروس إلى التركيز على حشد الموارد المالية لتجهيز الشواطئ الروسية المطلة على البحر الأسود، باعتبارها القاعدة الخلفية للوجود العسكري الروسي المنشود في البحر المتوسط. وفي تفسيرهم لتواجد أساطيلهم في المتوسط، يرى المخططون الروس أنه يأتي في سياق العمل على حماية الأمن القومي الروسي من أي طارئ يفد من منطقة البحر المتوسط، أو ما يُعرف بالخاصرة الرخوة لأوروبا. بيد أن حجم ونوعية التواجد الروسي المزمع، وذلك الذي تحقق بالفعل، دفع المحللين في الغرب إلى النظر إلى هذا التواجد باعتباره خطوة تتجاوز اعتبارات الأمن القومي الروسي لتلامس مسعى دؤوباً تنهض به روسيا لإعادة تثبيت أقدامها في المنطقة، في إطار رؤية أوسع مدى لحرب المصالح في الساحة الدولية. من جهتها، اعتبرت إسرائيل عودة البوارج الحربية الروسية للمنطقة بمثابة تهديد صريح لأمنها. ورأى محللو الدفاع الإسرائيليون أن هذه البوارج تمثل "قواعد متحركة" تنهض بمهام التجسس والاستطلاع الإلكتروني. وذهبت الاستخبارات الإسرائيلية إلى حد القول باحتمال تشييد روسيا منظومة صاروخية بهدف حماية قواعدها البحرية (التي ستغدو ثابتة) من أي هجوم جوي. وإن هذه المنظومة سوف تغطي، في حال تشييدها، عدداً من المواقع الحيوية المحيطة بها. والحقيقة، أن دراسة إسرائيلية نشرت قبل أعوام في مجلة / (MERIA) Middle East Review of International Affairs / الفصلية، المتخصصة في العلاقات الدولية، قد تحدثت بالتفصيل عن التحرك الروسي في الشرق الأوسط، وتأثيره على الأمن الإسرائيلي. على أن التصورات الدائرة في روسيا حالياً ربما تفوق ما ذهبت إليه الدراسة الإسرائيلية. من جهته، تجنب حلف شمال الأطلسي (الناتو) إبداء أي تحفظ حيال التحركات الروسية في المتوسط، وذلك خشية إحداث بؤرة توتر جديدة مع الروس. واكتفى الناطق باسم الحلف جيمس اباتوراي بالقول إن الناتو على علم بالمناورات التي تجريها روسيا في المتوسط، وأنها "لا تتنافى مع الاتفاقيات الدولية". ومن أجل توضيح خلفية موقف الناتو هذا، يمكن أن نشير إلى أن روسيا تتعاون في الوقت الراهن مع الحلف فيما يُعرف "بعملية مكافحة الإرهاب" الجارية في شرقي البحر المتوسط. وفي إطار هذه العملية، يتم تبادل المعلومات الاستخباراتية المرتبطة بحركة البواخر والأنشطة المختلفة في مياه المتوسط. وعلى الرغم من ذلك، فإن التحركات الروسية التي جرت خلال الشهرين الماضيين تعد مختلفة كلياً عن النشاطات المشتركة التي يجري تنفيذها مع الناتو. لقد أتت المناورات الروسية الأخيرة في المتوسط على نحو غير معهود ربما حتى في العهد السوفياتي، إن من حيث حجم ونوعية الأسلحة المستخدمة فيها، أو الفترة الزمنية الطويلة التي استغرقتها. فقد شاركت في هذه المناورات سبع بوارج حربية و 47طائرات مقاتلة، بما فيها أربع مقاتلات من طراز (سو - 33) ومقاتلتان من طراز (سو - 25) ، وعشر مروحيات حربية، يعد بعضها الأكثر حداثة في الترسانة الروسية. كذلك، شملت القطع البحرية حاملة الطائرات "الأميرال كوزنيتسوف"، الوحيدة من نوعها لدى الروس، والبارجتين "الأميرال ليفتشينكو" و"الأميرال تشابانينكو" وثلاث سفن مساندة، بينها السفينة المتقدمة "سيزار كونيكوف" والطراد الصاروخي الأكثر حداثة "موسكوفيا". وإضافة لمدلولاتها السياسية والاستراتيجية، تكتسب المناورات الروسية في المتوسط أهميتها لسبب آخر، إجرائي وإداري، ذلك أن الجهاز الوحيد لتدريب الطيارين البحريين الروس يقع خارج روسيا، في شبه جزيرة القرم الأوكرانية. ولهذا، غالباً ما تحول الأسباب السياسية دون استخدامه. وكانت مجموعة من القطع البحرية الروسية تتواجد بصفة مستمرة في البحر المتوسط إبان الحقبة السوفياتية، وتحديداً منذ العام 1967، بينما كانت مجموعة أخرى تتواجد في المحيط الهندي. وعادت هذه القطع إلى قواعد الأسطول الروسي بعد سقوط الدولة السوفياتية. وكما سبقت الإشارة، فإن سياسة العودة للمتوسط قد ترافقت مع مسعى نشط لتطوير الأسطول البحري الروسي، وإعادة دوره في البحار والمحيطات العالمية، حيث قام هذا الأسطول في الأشهر الأخيرة بسلسلة من التدريبات في المحيطين الأطلسي والمتجمد الشمالي، إضافة للبحر المتوسط. وضمت البعثة البحرية الروسية ثلاثة آلاف وخمسمائة شخص، وقامت "بزيارات صداقة" شملت عدداً كبيراً من الدول، وخاصة المتوسطية منها، في الشمال والجنوب على حد سواء. تعزيز الأسطول الروسي: وعلى صعيد بنية قواتها البحرية، يمكن ملاحظة أنه في الوقت الذي تحتل فيه روسيا المرتبة الثانية بعد الولاياتالمتحدة من حيث عدد الغواصات النووية، فإن الإمكانيات التقليدية لأسطولها البحري ظلت تتقلص باضطراد، إن بسبب تدهور أنظمة الصيانة أو تراجع التمويل. وقد أعلن الروس مؤخراً عن خطة لبناء ست من حاملات الطائرات في غضون العقود الثلاثة القادمة، تقرر أن تتواجد ثلاث منها في بحار الشمال وثلاث في بحار الشرق الأقصى. ويضم الأسطول الروسي حالياً حاملة طائرات واحدة هي "الأميرال كوزنيتسوف"، التي يفترض أن تظل في الخدمة حتى العام 2015.وبالمقارنة يضم الأسطول الأميركي 13حاملة طائرات. وقد كتب أحد الباحثين الروس يقول: لماذا تمتلك دول كالولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والأرجنتين وإسبانيا والبرازيل، بل وحتى تايلاند، حاملات طائرات بينما تبدأ روسيا الآن فقط بتصنيع أسطول من هذه السفن؟. هذا مع العلم - يضيف الباحث الروسي- أن حاملة طائرات هندية تصنع حالياً في مؤسسة روسية، كما ترغب الصين بدورها في الحصول من الروس على مثل هذه السفن. وتفيد التقارير الروسية، بأن حاملات الطائرات المزمع تصنيعها سوف تتسع الواحدة منها لنحو ثلاثين طائرة ومروحية. وسوف تصل حمولة هذه السفن إلى نحو 20ألف طن، في حين تصل حمولة "الأميرال كوزنيتسوف" نحو 59ألف طن؟. ويتطلب هذا الوضع طائرات أقل وزنا من "سو - 33"، التي تحملها حالياً "الأميرال كوزنيتسوف"، ولهذا قد يقع الاختيار على طائرات "ميغ - 29 ك". وفي المجمل، سوف يتم تجنب حاملات الطائرات الضخمة، كتلك التي يمتلكها الأسطول الأميركي، والتي تتسع الواحدة منها بين 100إلى 130طائرة ومروحية. وجدير بالذكر أن تصنيع حاملة الطائرات الواحدة يكلف الولاياتالمتحدة نحو ثمانية مليارات وخمسمائة مليون دولار، كما أن هذه السفن لا تستطيع العمل وحدها، بل تحتاج إلى زوارق وفرقاطات وسفن مساعدة. وفي سياق عملية تعزيز الأسطول البحري الروسي ذاتها، كان مقرراً أن تنضم لهذا الأسطول، قبل نهاية العام 2007، سفينة حديثة أطلق عليها "ستيريغوشي"، أي الحارس، وهي بارجة حربية متعددة المهام، مثل مواجهة البوارج والغواصات وتأمين الدفاع الجوي ومساندة جنود البحرية أثناء عمليات الإنزال. وهي أول بارجة حربية كبيرة تصنعها روسيا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، إيذانا ببدء الإنتاج الصناعي لسفن عسكرية قريبة المدى. وعلى صعيد الغواصات، سوف تنضم إلى الأسطول الروسي غواصة جديدة هي "سانت بطرسبرغ"، التي تنتمي إلى الجيل الرابع من الغواصات العاملة بالطاقة الكهربائية. وقد أنتجت روسيا في الحقبة السوفياتية 13غواصة نووية. وهي تملك حالياً عدداً أقل، صنع غالبيتها خلال الفترة من 1985إلى 1991.وهناك خمس دول فقط في الوقت الراهن تملك غواصات مجهزة بصواريخ باليستية، هي الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين، إضافة إلى روسيا نفسها. وغير بعيد عن ذلك، أنتجت روسيا هذا العام سفناً مخصصة لمكافحة القرصنة البحرية، يمكنها السير بسرعة تقارب 100كيلومتر في الساعة، بفعل تزويدها بمحركين تبلغ قوة الواحد منهما خمسة آلاف حصان، وما يسمى بالدافع الهوائي الذي يتشكل حين ترتفع السفينة المندفعة فوق سطح البحر. ويشتمل تسليح هذه السفن، التي أطلق عليه "الذئب"، مدفعين رشاشين من عيار 7ر 12ملم. وكانت الباخرة "سفيتسير كورساكوف"، وهي قاطرة بحرية روسية، قد تعرضت لهجوم من قبل قراصنة بالقرب من شواطئ الصومال في الأول من شباط فبراير الماضي، بينما كانت في طريقها من سانت بطرسبورغ إلى ساخالين. وما يمكن قوله خلاصة هو أن عملية الاستنهاض التي يشهدها الأسطول البحري الروسي، تجري انسجاماً مع تطلّع روسيا للعب دور عالمي يتناسب وحجم قدراتها العسكرية والاقتصادية، الآخذة في التصاعد على إيقاع طفرة البترودولار. ويمكن القول في السياق ذاته إن عودة الروس إلى البحر المتوسط يمثل استجابة لتحوّل داخلي بقدر كونه إفرازاً لمتغير دولي كبير. وسوف تقود هذه العودة ، ضمن أمور أخرى، إلى إعادة صوغ خيارات عدد من القوى الإقليمية والدولية المعنية.