"إن الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء"!! وما بادر إليه الملك عبدالله، وما أطلقه من مواقف، يعبّر عن شيء من هذا الانتصار المنطلق من قوة النفس الرافضة أي ضعف أمام شهوات الدنيا الزائلة الحضور العربي في العالم، وتقديم الصورة الحقيقية عن العرب وقضاياهم ومواقفهم، والتفاعل العربي مع الثقافات الأخرى، والوصول إلى مراكز الأبحاث والدراسات والتأثير، وبالتالي إلى مراكز القرار، لا يقتصر على الدبلوماسية والعمل السياسي المهم والحركة الدائمة، والإعلام على أهميته في مجالاته المختلفة المرئية والمسموعة والمكتوبة وعبر الانترنت ... فاللغة هي أهم عنصر من عناصر التواصل. مهما انتشرت وسائل الإعلام، يبقى دورها ناقصاً وغير مؤثر إذا لم يخاطب الآخر بلغته. كما لا يمكن التواصل الفاعل والمؤثر في عملية المحافظة على الهوية الوطنية، والاستفادة من اللوبي المغترب في الخارج، خصوصاً الأبناء الذين ولدوا في الخارج ولم يتعلموا لغة أوطانهم الأم، إلا من خلال اعتماد لغتهم، وكل ذلك يعني التركيز على اللغة الوطنية، وعلى لغة الآخرين من خلال الترجمة. والترجمة باتت علماً واختصاصاً. سواء أكانت ترجمة فورية في المؤتمرات والمناسبات او ترجمة كتب ودراسات تتم بالطريقة الكلاسيكية التقليدية وباتت التقنيات الحديثة تلعب دوراً مهماً في تسهيل وصولها إلى الناس واعتمادها. منظمة الاونسكو العالمية نشرت تقريراً عن الترجمة في الفترة الأخيرة أشار إلى أن اليونان تترجم ضعف ما يترجم في العالم العربي. وإسبانيا تترجم خمسة أضعاف ما يترجم عربياً!! خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز وبعد الاطلاع على التقرير بادر إلى إطلاق "جائزة عالمية للنهوض بالترجمة عربياً". وللجائزة فروع خمسة : جائزة الترجمة لجهود المؤسسات والهيئات، وجائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من العربية إلى اللغات الأخرى، وجائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وجائزة الترجمة في العلوم الطبيعية من العربية إلى اللغات الأخرى، وجائزة الترجمة في العلوم الطبيعية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية. إن هذا القرار هو خطوة مهمة جداً في إطار استراتيجية عربية يجب أن تكون واضحة الأهداف وتتوفر لها الإمكانات المطلوبة والمؤسسات الضرورية لتطبيقها. ويُسجّل لخادم الحرمين الشريفين هذا الاهتمام ذو الأثر الكبير في تعميق معرفة العرب وتفاعلهم مع شعوب وأمم أخرى وفي إطلاع هذه الشعوب والأمم على تاريخ العرب الغني بالإنجازات والاكتشافات العلمية في مجالات العلوم والطب والفكر والفلسفة منذ قرون من الزمن. وتشجيع الترجمة بهذا الشكل سوف ينعكس على خيارات الطلاب في اختصاصاتهم، وعلى الجامعات في تخصيص مادة الترجمة في علوم اللغات بمكانة مميزة، وعلى المؤسسات والمنظمات الحكومية الدولية وغير الدولية في الاستفادة من طاقات الشباب المختصين في الترجمة في ميادين مختلفة، وسيسهل عمل الإعلام والتواصل بين العالم أكثر فأكثر. وبالتالي فإن هذه الخطوة التشجيعية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين هي ذات أبعاد محلية وعربية واسلامية وعالمية، وبالتالي هي خطوة إنسانية بكل ما للكلمة من معنى، وخطوة نحو المستقبل لا بد من تقديرها وتسجيل هذه المكرمةالجديدة وهذا الفضل الجديد للملك عبدالله في مجال الثقافة والعلم والفكر والتفاعل الإنساني بين الشعوب. وفي خطاب أمام مجلس الشورى تناول خادم الحرمين مسألة الحرية فقال : "الحرية تكون في التفكير والنقد الهادف المتزن، والمسؤولية أمانة لا مزايدات فيها ولا مكابرة عليها". "إن الحرية المسؤولة هي حق لكل النفوس الظاهرة المحبة لمكتسبات هذا الوطن الروحية والمادية". وأضاف : "الحرص ألا يكون بيننا ظالم ومظلوم، وخادم ومحروم، وقوي ومستضعف، فنحن جميعاً أخوة متحابون في وطن واحد يتمسك بعرى عقيدته، ويفتديها بحياته ويتمسك بوحدة الوطن ولا يسمع نداءات الجاهلية ... سواء لبست ثياب التطرف المذهبي أو الإقليمي أو القبلي". توقفت عند هذا النص لأن فيه روح العدالة الإنسانية في موقع الحاكم والمقرر، وفيه نظرة للمستقبل تنطلق من إيمان بوطن وعقيدة، ولكنها تدعو إلى الانفتاح وإلى الخروج من عقد الماضي وسلبياته إلى رحاب الكون كله في إطار نظرة إنسانية بعيدة عن المذهبية والتعصب والقبلية، ولا تتناقض مع جذور وجوهر العقيدة التي ولدت من أجل الإنسان في النهاية. كذلك فإن الحديث عن الحرية في التفكير والنقد باعتبارها حقاً، فإن في ذلك شجاعة لاسيما عندما يتجسد ذلك في الممارسة وهذا ما كرسه خادم الحرمين الشريفين. المؤمن يجب ألا يخاف كلمة أو رأياً من أي جهة أتت. والصافي النية المحب لأبناء وطنه والساعي إلى خدمتهم، والرافض الاستكبار عليهم أو استضعافهم أو حرمانهم إنما هو قوي بنفسه وبالتالي منتصر في عمله. فقد كان الزعيم الكبير والمثقف الشهيد كمال جنبلاط صديق خادم الحرمين الشريفين يقول : "إن الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء"!! وما بادر اليه الملك عبدالله، وما أطلقه من مواقف، يعبّر عن شيء من هذا الانتصار المنطلق من قوة النفس الرافضة أي ضعف أمام شهوات الدنيا الزائلة. لماذا الربط بين موضوعي الترجمة والحرية؟؟ في الحقيقة هما مرتبطان موضوعياً وليس في ذلك أي تركيب غير واقعي. فعندما نتحدث عن حرية الفكر والنقد فليس لذلك حدود. وعندما نتحدث عن أسس العدالة في الحكم ففي ذلك قاعدة ينبغي أن يبنى عليها أينما كان. فكيف إذا كانت تنطلق من فكر رجل كبير حاكم تتوفر له كل عناصر الملك والسلطة لكنه اختار الناس وكرامتهم وحقوقهم ومصالحهم والعدالة فيما بينهم ومعهم، والشراكة معهم في الوصول إلى مساواة حقيقية وفي ذلك تجربة مهمة في الممارسة السياسية خصوصاً في هذا العصر وفي هذه الظروف، وبالتأكيد ليس هذان الأمران هما فقط ما أقدم عليه من خطوات الملك عبدالله في المرحلة الأخيرة ولذلك يستحق كل تقدير وشكر. كذلك فإن في ترجمة مثل هذه السياسات والمواقف والخطوات بممارسة عملية من جهة وبالدراسات والأبحاث والمقالات التي تترجم بحد ذاتها إلى لغات أخرى من جهة ثانية، فإن ذلك يعطي صورة أوضح وأعمق عن الحاكم العادل وعن الحكم في المملكة خصوصاً وعن حياة العرب عموماً وتوجهات رجالاتهم الكبار.