هذا الشعور المعادي للغرب، ليس بسبب مقاومة العصرنة والتحديث والتقدم والتنمية، كما يروج البعض في الغرب، ولكنه بسبب السعي الغربي المستمر والمسعور للسيطرة على مقدرات وثقافة العالم الإسلامي، والسعي لخلق شرق أوسط موال لأمريكا.. ؟ إنه من السذاجة أن يعتقد المرء أن ظهور الإسلام لم يؤثر على الشرق الأوسط، وعلى العلاقات بين الشرق والغرب، فالإسلام كان قوة توحيد عبر المنطقة.. وهو كدين عالمي قد أنشأ حضارة عالمية، تقوم على مبادئ مشتركة من الفلسفة والفنون والتراث، ورؤية خاصة للحياة، والعدالة، والقضاء، والتشريعات، وأسلوب الحكم.. وكل ذلك ضارب في عمق الثقافة. والإسلام كقوة ثقافية وأخلاقية قد ساعد على تجسير الخلافات العرقية بين جميع المسلمين على اختلاف فئاتهم وتنوعهم، وشجع هؤلاء الناس على الشعور بأنهم جزء من مشروع حضارة إسلامية عالمية.. وهذا وحده جعل للإسلام ثقلاً ووزناً وتأثيراً كبيراً، والإسلام، كذلك، أثر على الجغرافيا السياسية، فلو أن دول جنوب آسيا اليوم، خاصة باكستان وبنغلاديش وماليزيا وأندونيسيا، لم يوجد بها إسلام، لكانت متجذرة في العالم الهندي (Hindu)، فالحضارة الإسلامية استطاعت أن تقدم قيماً نموذجية ومثالية مشتركة جذابة، استطاع من خلالها جميع المسلمين أن يلتفوا حولها، لمقاومة الاعتداءات والتجاوزات الغربية عليهم.. وحتى لو أن ذلك الالتفاف والإجماع فشل في إيقاف مد الاستعمار الغربي، فإنه قد استطاع أن يخلق ذاكرة ثقافية جمعية من المصير المشترك، ذات التأثير المستمر. لقد استطاع الأوروبيون أن يجتاحوا عدداً من الشعوب الأفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية، وسقطت تلك الشعوب فريسة أمام القوة الأوروبية الغاشمة، ولم يكن من المتصور وجود مقاومة موحدة ومشتركة بين هؤلاء الشعوب، في غياب رموز عرقية أو ثقافية مشتركة. إنه في عالم بدون إسلام، سوف يجد الاستعمار الغربي من (السهل) احتلال الشرق الأوسط والسيطرة عليه، حيث لن يبقى - عندئذ - ذاكرة عميقة ثقافية مشتركة بين الشعوب، في حالات الانكسار والهزيمة عبر منطقة واسعة.. وهذا هو السبب الرئيس الذي يفسر لنا لماذا تجد الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها - اليوم - واقعة في وحل ومستنقع العالم الإسلامي، تعض أصابع الندم نظراً لقوة هذه المشاعر.. واليوم، فإن الاتصالات العالمية، والصور التي تبثها الأقمار الصناعية، قد خلقت شعوراً قوياً بالوعي الجمعي بين المسلمين، ونمت الشعور بوجود حصار غربي ضد الثقافة الإسلامية المشتركة بين المسلمين. هذا الشعور المعادي للغرب، ليس بسبب مقاومة العصرنة والتحديث والتقدم والتنمية، كما يروج البعض في الغرب، ولكنه بسبب السعي الغربي المستمر والمسعور للسيطرة على مقدرات وثقافة العالم الإسلامي، والسعي لخلق شرق أوسط موال لأمريكا.. ولسوء الحظ، فإن أمريكا من السذاجة بمكان لتعتقد أن الإسلام كدين يقف حائلاً بينها وبين الحصول على هذه الجائزة، فالشعوب سوف تجد أي وسيلة للمقاومة، وعبر أية أيديولوجية. ثم نأتي لمسألة الإرهاب.. وهو الذي من أكثر المسائل الواضحة، التي يقرن الغرب فيها بين الإرهاب والإسلام، وبلغة مباشرة: هل كانت أحداث سبتمبر ستقع بدون الإسلام؟ وإذا كانت مظالم الشرق الأوسط، والتي منشؤها سنوات من الغضب السياسي والعاطفي ضد سياسات الولاياتالمتحدة وأفعالها، لو أنها كانت مغلفة تحت شعار مختلف، فهل الأشياء كانت ستبدو مختلفة كثيراً؟ مرة أخرى، فإن من الضروري أن نتذكر كم هو من السهل استخدام الدين عندما يوجد مظالم كبرى أخرى يمكن أن يعزى لها السبب، فأحداث سبتمبر لم تكن بداية التاريخ، فمن وجهة نظر الذين دبروا الحادث، فإن الإسلام لم يكن إلا المرآة التي ركزت تلك المظالم المتفرقة، وجعلتها واضحة في عيون بعض الجماعات الإسلامية، إنها مجرد ومضة، ولحظة وضوح سهلها الدين لهم، وفيما يجب عمله ضد هذا الغازي الخارجي القادم من الغرب البعيد. إنه عندما يربط الغرب الإرهاب بالدين فإن ذاكرته تبدو (ضعيفة).. فاليهود قد استخدموا الإرهاب ضد الإنجليز في فلسطين، ونمور الهند التاميل قد اخترعوا فن (السترة الانتحارية)، ولأكثر من عقد من الزمان قادوا العالم في استخدام الهجمات الانتحارية، بما في ذلك اغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي، كذلك الإرهابيون اليونانيون قاموا بتنفيذ عمليات اغتيالات ضد المسؤولين الأمريكيين في أثينا، والشبكات الإرهابية بين (السيخ) قادت إلى اغتيال إنديرا غاندي، وكانت لهم قواعد في كندا، ونسفوا طائرة هندية فوق الأطلسي. وكذلك الإرهابيون المقدونيون عندما نشروا الرعب عبر البلقان عشية الحرب العالمية الأولىِ، وعشرات الاغتيالات، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين، قد نفذت من قبل الأوروبيين والأمريكيين، الذين يدعون إلى مبدأ (الفوضى)، خالقين أجواء من الرعب الجماعي، أضف إلى ذلك الجيش الجمهوري الايرلندي، الذي استخدم وسائل بشعة للإرهاب ضد الإنجليز على مدى عقود، وكذلك الثوار الشيوعيون في فيتنام ضد الأمريكيين، والشيوعيون المالييون ضد الجنود الإنجليز في الخسمينات الميلادية، ومجموعة (ماوماو) الإرهابية ضد الإنجليز في كينيا، والقائمة تطول وتطول.. إذاً، فليس من الضروري أن تكون (مسلماً) لكي تقدم على عمل إرهابي. حتى في التاريخ الحديث للنشاطات الإرهابية لا تبدو الصورة أكثر اختلافاً، فطبقاً للبوليس الأوروبي، فإن (498) عملاً إرهابياً حدث في الاتحاد الأوروبي في عام (2006م) وحدها، منها (424) صدرت من مجموعات انفصالية، و(55) قام بها يساريون متطرفون، و(18) أخرى من قبل مجموعات إرهابية مختلفة، و(1) منها - فقط - نفذت من قبل مسلم! نعم، هناك عدد من العمليات خطط لها بعض المسلمين وتم اكتشافها، ولكن العبرة في هذه الأرقام أنها تكشف عن (سعة) الطيف الأيديولوجي من الإرهابيين المحتملين في العالم.. ولهذا، فهل من الصعب تصور أن العرب (سواء كانوا مسيحيين، أو مسلمين)، وهم الغاضبون على إسرائيل وعلى القوى العظمى لدأبهم الدائم على غزوهم، وقلب نُظم الحكم لديهم، والتدخل في شؤونهم الداخلية، ألا يستخدموا أعمالاً إرهابية مشابهة؟ ولذا، فإن السؤال المشروع والواقعي الذي يجب أن يُطرح هو: لماذا لم تحدث عملية (9/11) في وقت أبكر؟ وعندما وعت الجماعات الراديكالية مظالمها في عصرنا المعولم، فلماذا لا نتوقع أنهم سوف ينقلون صراعاتهم وعملياتهم إلى (قلب) العالم الغربي؟؟ وإذا كان الزعم بأن الإسلام ضد التحديث ويمقت التطور والعصرية والتنمية، فلماذا انتظر الإسلام حتى (9/11) لينفذ هذا الهجوم؟ ولماذا كان كبار المفكرين الإسلاميين، في بداية القرن العشرين، يتحدثون عن الحاجة إلى التحديث والتنمية، وفي نفس الوقت المحافظة على الثقافة الإسلامية؟ لم تكن قضية الإرهابيين في هذا العصر هي التحديث والتنمية على الطريقة الغربية، بل كل ما كانوا يتحدثون عنه هي المظالم التي ارتكبها الصليبيون في بلاد المسلمين، وإنه لشيء ملفت ومدهش أنه انتظرنا حتى أواخر (2001م) لنرى الغضب الإسلامي ينفجر على الأراضي الأمريكية نفسها، كرد فعل لتراكمات تاريخية وأخرى حديثة للأفعال والسياسات الأمريكية، ولو لم تكن حادثة (9/11) فإن حادثة أخرى تماثلها كانت حتماً ستحدث! حتى لو أن الإسلام كوسيلة للمقاومة لم يظهر، فإن الماركسية، أو غيرها من الأيديولوجيات، كانت ستكون الغطاء المحرك لهذه العمليات. إنها (الأيديولوجيا) وراء ظهور أعداد لا تحصى من حركات التحرر والإرهابيين والفدائيين، واستفادت من هذه الأيديولوجيا حركات من أمثال (ETA) الباسك، وحركة (FARC) في كولومبيا، وحركة (SP) في البيرو، وحركة (RAF) في أوروبا، وجورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان ينتمي للطائفة اليونانية الأرثودكسية المسيحية، وماركسي درس في الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي الزمن الذي جرب الغاضبون، من الوطنيين العرب، استخدام الوسائل الماركسية العنيفة، فإن عدداً من المسيحيين الفلسطينيين ساندوا جورج حبش. إن الشعوب، التي تقاوم الغازي الأجنبي، تبحث عن رايات وشعارات وأيديولوجيات تمجد قضاياهم، وتنشر مظالمهم التي يناضلون من أجلها لمقاومة الغازي.. فكم استخدمت شعارات متعددة لحشد التأييد الجماهيري، مثل (الصراع العالمي للطبقات)، و(القومية)، و(الماركسية)، ولكن (الدين) يقدم البديل (الأفضل)، كوسيلة لحشد تأييد الناس.. فجاذبيته لأعلى قوة هو سر انجذاب الناس إليه، في رفع المظالم الوطنية للشعوب، و(الدين) في كل زمان ومكان، هو أفضل بديل ووسيلة تستخدم لدعم العرقية والوطنية حتى لو تجاوزهما، خاصة عندما يكون العدو ينتمي إلى دين مختلف.. وفي مثل هذه الحالات لا يكون الدين مصدر الخلافات والمصادمات والنزاعات والمواجهات بينها، ولكنه يتحول إلى أداة لخدمة قضاياها. ويمكن للشعارات التي تنضوي تحتها هذه الجماعات أن تضمحل، ولكن المظالم تبقى! إننا نعيش في زمن حيث الإرهاب الأداة المفضلة في يد الضعفاء.. يكفي أنه - الآن - قد أحرج القوة العسكرية العظمى في العالم في العراق وأفغانستان.. إنه لا يوجد شيء جذاب أكثر مثل نجاح المقاومة ضد القوة الأمريكية المسيطرة، عندما يهاجمها الضعيف.. جاذبية تتجاوز الإسلام، وثقافة الشرق الأوسط. ويبقى السؤال، لو أن الإسلام لم يظهر: فهل سيكون العالم أكثر أمناً وأماناً؟ إنه في وجه التوتر بين الشرق والغرب، فإن الإسلام - بدون شك - يضيف بعداً إضافياً دافعاً، وعنصراً آخر لتعقيد الوصول إلى حلول.. فالإسلام ليس سبب المشاكل، والبعض (يتذاكى) بالقول بأنه وجد آية في القرآن يعتقد أنها تفسر: لماذا يكرهوننا؟ ولكن هذا يعمينا عن طبيعة الظاهرة.. فكم هو مريح أن نوجه اللوم للإسلام كمصدر للمشكلة.. إن ذلك (أسهل) بكثير من أن ننقب ونبحث عن تأِثير يد القوة العظمى الوحيدة في العالم، في (إيجاد) المشكلات الدولية. إن عالمنا، حتى بدون الإسلام، سيظل يشهد معظم المنازعات الدموية المستمرة، والتي حروبها ومحنها سوف تسيطر على المشهد الجغرافي السياسي العالمي.. وإذا لم يكن الدين هو الراية، فإن هذه الجماعات من أمثال (القاعدة، حماس، حزب الله) سوف تجد راية أخرى، تستطيع من خلالها أن تعبر عن طموحاتها السياسية. ومع أن التاريخ لا يتبع خطاً واحداً في مساره، ولكن، في النهاية، فإن الصراع بين الشرق والغرب سيظل مركزاً حول المسائل التاريخية والجيوسياسية الكبرى المرتبطة بالتاريخ الإنساني مثل: العرقية، والقومية، والطموحات، والتطلعات، والجشع والطمع، والموارد، والحدود، والمكتسبات المادية، والقوة، والسلطة، والتدخلات، وكره الغرباء، والغزاة، والتوسعيين.. وعندما تواجه الشعوب والمجتمعات هذه القضايا وتلك التحديات، فكيف لا نتصور أن قوة هائلة ك (الدين) لا تستخدم، أو تستثمر في هذه الصراعات!؟ إن علينا أن نتذكر أن جميع الفظائع والأحداث الوحشية والدموية الكبرى، التي حدثت في القرن العشرين، جاءت جميعاً - ودون استثناء - من أنظمة (علمانية) - وليست إسلامية - من أمثال: ليوبولد الثاني البلجيكي في الكونغو، وهتلر، وموسوليني، ولينين وستالين، وماو، وبول بوت. لقد كان الأوروبيون هم الذين (ابتلوا) العالم بأسره بحربين عالميتين، وبصراعين عالميين مدمرين، وبضحايا بلغوا عشرات الملايين من الأبرياء! و(بدون أدنى شبه) لما حدث عبر التاريخ الإسلامي. يبقى القول، أن هناك من يتمنى عالماً بدون إسلام.. أُناس يعتقدون أنه بدون الإسلام ما كان لهذه المشاكل والصراعات أن تحدث.. ولكن الحقيقة هي أن الصراعات والمنافسات والأزمات، التي أصابت عالمنا اليوم، سوف (لن) تختفي، سواء بالإسلام أو بدونه.. وسيظل عالمنا كما هو اليوم، بقطع النظر عن وجود الإسلام أو غيابه.. فصورة العالم التي نعرفها اليوم لن تكون (مختلفة) كثيراً عما هي عليه، سواء بالإسلام أو بدونه!!