(عُيُونُ السَّمَكِ مِن دِلمُون) تحدثنا الأسبوع قبل الماضي عن حكاية نشوء فن الصوت وعبد الله الفرج واليوم، حكاية نشوء فن الفجري غناء البحارة في الخليج العربي، وهذا الغناء مخصوص بأهل البحرين والأحساء والكويت وقطر فيما يغيب عن الإمارات وعمان باستثناء استخدام الشعر المسبع في النهمة والموال في غير مناسبات فيما تبقى فصول الفجري التي ترافق البحارة منذ الرحيل حتى العودة تخص شرق الجزيرة العربية، وفي دور خاصة للسمر لما لهذا الفن من خصوصية في الأداء عند النهَّام والحداء والتجعيبة (أصوات الكورال)، والتقنية الموزونة في الصفقة وضرب الإيقاع والزفن أي الرقص من نشَّة وسواها، ونروي الحكاية فكأنها تذكر لأمر مضى لا يعود.. فالبترول واليابان أنهيا عصر صيد اللؤلؤ!. والحكاية بالغة الدلالة بكل ما فيها مفاجئ فيجب أن تفهم الحكاية ضمن سياق ماض سحيق ليس قريباً منا. فقد نقلها بولس مطر أثناء جولته على كبار عمال البحر في المحرق موثقاً إياها في كتابه "خليج الأغاني" كما يلي: "إن ثلاثة من البحارة، أولهم منحدر من المحرق، والباقيان من المنامة في البحرين خرجوا ذات ليلة من المدينة باحثين عن مكان هادئ منفرد يستطيعون الغناء واللهو وفقاً لرغبتهم و بعيداً عن كل قيد، فاكتشفوا بالقرب من قرية "أبي صبح" معبداً قديماً مهجوراً مهدماً.. وعندما اقتربوا من ذلك المكان الذي اعتقدوا أنه خالٍ تخيلوا أنهم يسمعون أصواتاً غريبة رائعة تغني أغنية لم يكونوا يعرفونها.كانت على جانب من الروعة لم يكن أحد يتصوَّر وجود شبيه لها. فكلما اقتربوا من المكان، كانت الأصوات تزداد نقاء ووضوحاً، وتأكد لهم أن المعبد هو مصدر تلك الأصوات. فظنوا أن هناك جماعة من المحتفلين اللاهين فقرَّروا الانضمام إليهم بأي ثمن، لأن جمال الأصوات وروعتها كانا قد سحرهم. تقدموا من المعبد، لكن ما أن خطوا مسافة قصيرة حتى انهالت عليهم سيول من الحجارة. وفي تلك اللحظة، ظهر الذين كانوا يشغلون المعبد. جمُد الأصدقاء الثلاثة من شدة التأثر أمام رؤية هذه الكائنات العجيبة، التي كانت من أنصاف البشر، فالنصف الأعلى من أجسادهم كان بشرياً، في حين كان نصفها الأسفل عبارة عن أقدام حمار. فتجرأ أحد البحارة الثلاثة وقال: "السلام عليكم"، فسأله شيخ الكائنات العجيبة: "هل أنتم بشر أم أرواح؟"، فأجابوا: "نحن إنس وأطيب الإنس ولا نرغب إلا أن نُشرَكَ في سمرتكم هذه" فرحَّبَ بهم.. وهكذا كان. استقبل الأصدقاء الثلاثة، وتم الاحتفال. فغنى الثلاثة أغنياتهم وأدى الجان موسيقاها الروحية التي لم تكن سوى الفجري. وما لبث الأصدقاء الثلاثة أن تعلموا تلك الأغاني الغريبة الرائعة.. ولكن عندما حان وقت الانصراف قال لهم رئيس الأرواح: "لن تبرحوا هذا المكان من دون أن تعدونا وعداً قاطعاً بأنكم لن تحدثوا أبداً عما شاهدتموه وأنكم لن تغنوا أبداً أمام غيركم من البشر هذه الأغاني التي تعلَّمتُمُوها هذه الليلة، وإلا فسيكون عقابكم الموت ". هكذا قيل وهكذا حدث.. وتقدَّمَ الزمن، ومات اثنان من الأصدقاء الثلاثة وبقي ثالثهم وقد أثقلت كاهله السنون فشعُر باقتراب ساعة موته واضطرب اضطراباً شديداً عندما ساورته فكرة رحيله عن هذه الدنيا حاملاً معه إلى غياهب قبره أسرار تلك الموسيقى الرائعة من دون أن يترك لها أثراً على الأرض، فلم يستطع مقاومة رغبته في الخروج عن صمته وفي تعليم الفجري إلى أصدقائه من البحَّارة. وبعد أسبوع قضى نحبه. غير أن أغنية الفجري بقيت وانتشرت وتناقلها البحارة جيلاً بعد جيل حتى أيامنا هذه". كل هذه الحكاية ليقول البحارة بأنهم يَشقَون ويُقهَرُون من أجل كنوز في أحشاء البحر، وأنهم يحافظون على هذه القدرة بالصبر والبأس بإلهام رباني خارق يعينهم على الجلد والتحمل.. " يا زين الأوصاف ذابت مهجتي شخطاي؟ أنكرتني ليش شنو سبتي؟ شخطاي؟ الجسم مني نحل ، يا سيدي ، شخطاي؟ صوَّتّ بالصوت ، يا أهل العارفين ، احضروا وافتوا بالإنصاف في دروب الحقوق احضروا ردوا الذي مال لدروب الخطا ..واحضروا شوروا على الخل يمحي زلتي وخطاي! " كل النهمات واليامال، والمسبع والزهيري، والأشرعة، والمحار تخترق ذاكرة لا تنسى. ذاكرة مستحيلة!. @ نقش آشوري - 2000ق.م.