تولدت لديّ قناعة، ربما يتفق معي فيها البعض وهي أن كثيراً من مشاريعنا الثقافية تبدأ كبيرة ليست فقط من حيث الطموح وانما من حيث الفعل والإمكانيات ثم تضعف وتهرم بعد مدة من الزمن ليست طويلة إلى أن يتلاشى وهجها تماماً وربما تنحرف بها المؤسسة القائمة عليها عن أهدافها الأولى وكأن المشروع أصلاً لم يتم، ولنأخذ بعض الأمثلة. أبدأ بمؤتمرات الحوار الوطني والمركز الذي يخطط للقاءاته وموضوعات حواراته، وكانت الفكرة قد صدرت ونفذت بتوجيهات من خادم الحرمين الشريفين حرصاً منه رعاه الله على أن يكون هناك حوار في الأمور التي يوجد فيها خلاف حقيقي بين فئات المجتمع ولذلك بدأ المؤتمر الأول بموضوع الخلاف المذهبي، وكان له من الأثر والنتائج ما يعرفه الجميع، ثم تلاه مؤتمر مكة، ومؤتمر المدينة. وفيما عدا هذه المؤتمرات الثلاثة بموضوعاتها المهمة والحيوية جداً لا أظن المؤتمرات واللقاءات التي تلت ترقى في أهميتها ولا في أولويتها وخطورتها في المجتمع السعودي إلى المؤتمرات الثلاثة. أنا لا أشك في قدرة وحماس واخلاص القائمين على مركز الحوار الوطني وصدقهم في العمل ولكني أظن ان المركز قد انحرف عن الموضوعات التي أنشئ من أجلها وأصبح يناقش موضوعات لا أقول ان بعضها غير مهم ولكن أيضاً لا تصلح أن تكون موضوعاً للحوار الوطني والأهداف التي كانت سبباً في تأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. كانت القضايا المذهبية وقضايا المرأة التي بدأ بها المركز نشاطه تشكل قضايا مصيرية بالنسبة للمجتمع السعودي، والأهم في ذلك انها قضايا يختلف الناس حولها كثيراً وكثيراً، باعتبار أن عدم الحوار حولها وبقاءها بلا حل، يعيق خطط التحديث التي تسعى الدولة إلى إرسائها أو على الأقل يؤخر البت فيها مع ما لهذه القضايا وتبعاتها من مساس مباشر بحياة كل فرد. بل ان هذه القضايا الحيوية وأمثالها لا يكفي فيها لقاء واحد وإلا لما أصبحت قضية خطيرة في المجتمع ينبغي التحاور حولها. في ظني ان الحوار الوطني يجب أن يكون حول الموضوعات التي نختلف حولها بشدة ويهدد الخلاف حولها وحدة المجتمع، ومع أهمية بعض الموضوعات التي أخذ يناقشها المركز إلاّ أنها لا تشكل قضايا عاجلة آنية ومصيرية ويمكن لجهات الاختصاص أن تضع حلولاً لها ونترك المركز ينشغل بما هو أهم ولكن أيضاً بشرط أن قراراته ونتائجه وتوصياته تجد طريقها للتنفيذ. مثال آخر لمشاريعنا الكبرى مهرجان الجنادرية الذي بدأ بزخم كبير من النشاط الثقافي من محاضرات وندوات وضيوف كبار من من الداخل والخارج العربي والأجنبي واستمر هذا سنوات عدة، ولكن يتفق الآن العديد من المتابعين ان المهرجان لم يعد بالوهج السابق ولا بالبريق الذي بدأ به. ترى ما هي الأسباب؟ هل أصبحت مدينة الرياض تعج بالندوات والنشاطات الثقافية في المؤسسات الثقافية الأخرى وبالتالي لم تعد فعاليات الجنادرية تغري الكثير بالحضور؟ أم حدث تحول وتبدل في طبيعة ونوعية ما يقدمه المهرجان؟ كل هذه الأسئلة مطروحة للنقاش، وأياً كانت الأسباب. فالنتيجة واحدة، وعلى العموم فمهرجان الجنادرية مضى على بدايته فترة طويلة حافظ فيها على قوته عدداً من السنين، تسجل له أهميته وتاريخه المشرف دون شك ولكن الكثير من المهرجانات تغير جلدها وتتطور وتواكب ما يحدث في المجتمع، وقد أدى المهرجان دوره على أكمل وجه لذلك ربما حان الوقت لكي ينظر المسؤولون في الحرس الوطني في مسألة التجديد هذه وأمامهم خيارات كثيرة ومن المؤكد أنهم فكروا فيها لحرصهم على بقاء هذا المهرجان ودوره المهم في الثقافة المحلية، وأظن ان جعل المهرجان يختص بالتراث والموروث فقط ربما تكون أحد الخيارات المطروحة، وبذلك ينفرد المهرجان بموضوع لا ينافسه فيه غيره من الفعاليات السنوية وغير السنوية بمعنى أن تتمحور أنشطته وأبحاثه وندواته حول فعاليات ودراسات في الفوكلور والتراث الشعبي، ويظل السوق ومعروضاته من حرف وأدوات رافداً لهذه الدراسات، ومكاناً مهماً لتعريف الأجيال بتراثهم، وحتى المسرح يمكن أن يندرج تحت هذا التصور بمعنى أن يتحول المهرجان إلى احتفالية بالشعر الشعبي والمسرح والرقصات الشعبية والدراسات التي تتناول هذه الجوانب وغيرها من جوانب الموروث. بقي أن أختم بفعاليتين حديثتين وبشيء من التفاؤل المستحق، الأولى معرض الكتاب الذي رعته أولاً وزارة التعليم العالي ثم انتهى أمر الاشراف عليه إلى وزارة الثقافة والإعلام، والواقع أن معرض العام الماضي قد تفرد بنقلة نوعية على كل المستويات ومن المؤكد ان يستمر تطور فعالياته وتنوعها بفضل ما يوليه معالي الوزير من اهتمام لهذه المناسبة، وما يقوم به مسؤولو وكالة الوزارة للثقافة من إعداد وتخطيط وجهد كبير في سبيل الحرص على أن يظهر المعرض بصورة متميزة ومتجددة كل عام. أما الثانية فهي فعاليات سوق عكاظ، الذي كانت بدايته في العام الماضي وهو حدث سيكون مختلفاً في دوره وفي ما يقدمه، عن بقية مناسبات المملكة وذلك بسبب حرص صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة على إحياء السوق والاهتمام به، وتوجيهاته من خلال إشرافه المباشر عليه كرئيس للجنة العليا للسوق، وكذلك جهد وحماس اللجان الأخرى التي نفذت تجربة العام الماضي وتقوم الآن بمواصلة الجهود ليل نهار للقيام بالمهام المنوطة بها في شكل يليق بالمناسبة وبالسمعة التاريخية للسوق.