قيل لنا إن الخروج عن نص الحوار الحضاري هو سمة في شخصية إنسان العالم الثالث، وظن البعض أن ما يشاهده في بعض البرلمانات من نقاش حاد يصل إلى حد الصراخ ويتطور إلى الاشتباك بالأيادي هو أيضاً سلوك لا يمكن مشاهدته في الدول المتقدمة. ولكن، من يتابع العملية الانتخابية هذه الأيام في أمريكا سيلاحظ أن المناظرات بين المرشحين تبتعد عن القضايا التي تهم المجتمع الأمريكي إلى تبادل للهجمات الشخصية التي لا تصوب نحو أفكار الشخص وسياساته بل نحو شخصيته. أحد كبار المذيعين في أمريكا علّق على تلك المشاجرات الكلامية بأنها مسلية، وتصلح كبرنامج مسائي في إحدى القنوات التلفزيونية ولكنها غير مفيدة. ثم يضيف ذلك المذيع نقطة جوهرية وهي القدرة على ضبط النفس والتحكم بالغضب في المواقف الصعبة.. وفي حالة الانتخابات لمنصب رئيس أمريكا فإن الأمريكيين بالتأكيد يبحثون عن شخصية قيادية قادرة على القيادة، وقادرة أيضاً على السيطرة على الأقوال كما هي قادرة على الأفعال. ويذكرني تعليق المذيع بأن المشاجرات مسلية بالتسلية التي كنا نجدها في الندوات التي تتحول إلى نقاش حاد يخرج عن الموضوعية إلى الهجوم الشخصي، وكيف كان يعجبنا المحاور الذي يتجرأ وينتقد محاوره بطريقه محرجة أمام الجميع. تلك كانت تسلية ولكنها في آخر المطاف غير مفيدة، وهو ما ينطبق أيضاً على المناقشات التي تنشر في الصحف والاختلاف في الرأي الذي يقود شخصيات معروفة بعلمها وثقافتها إلى الخروج عن الموضوعية والتهكم بمحاوره، والتقليل من شأنه. ومن الحقائق المعروفة أن المحاور المتمكن الواثق بنفسه، وبفكره، وبما لديه من حجج وبراهين هو المحاور الذي سيتحدث بموضوعية، وهدوء ولن يكون بحاجة إلى رفع الصوت ولا إلى التقليل من شأن محاوره.. أما المحاور الآخر غير الملتزم بالموضوعية ذلك الذي يلجأ إلى الصراخ فإنه يفعل ذلك لضعف الحجة، وحتى يبتعد عن الحوار الفكري الذي لا يقدر عليه فإنه يحاول جر هذا الحوار إلى قضايا شخصية وهي الميدان الذي يبرع فيه ويمتلك أدواته ويحقق فيه نشوة الانتصار. إن الحوار الذي ننظر إليه وكأنه مباراة رياضية لابد أن نحقق فيها الفوز بطريقة خروج المغلوب هو حوار غير موضوعي، وغير حضاري، وغير مفيد. المثير للاستغراب ان حوار خروج المغلوب يحصل بين المثقفين المنتظر منهم تقديم أنموذج يحتذى في فن الحوار. أما بالنسبة للسياسيين فإن عدم قدرة السياسي على ضبط النفس في ساحة الحوار أمر يثير القلق والخوف لأن السياسي سيكون مسؤولاً عن اتخاذ قرارات مصيرية، ومن المؤكد أن بعض الدول التي تفتخر بالديمقراطية تشعر بالخجل حين تنقل أخبار العالم عبر شاشات التلفزيون ومن داخل المبنى الذي يرمز للديمقراطية (البرلمان) مشاهد العراك بالأيدي داخل البرلمان بين أعضاء من البرلمان. إنها صورة مؤسفة، وهي بالتأكيد لم تحصل فجأة، وإنما هي نتاج حوار غير حضاري، ومن لا يستطيع السيطرة على أقواله، قد لا يستطيع السيطرة على أفعاله.