التفكك والإهمال الأسري أمر خطير تفشى في مجتمعاتنا بشكل رهيب، وأصبح يشكل فجوة كبيرة يخاف من اتساعها في المستقبل، وما يجعل في الأمر استهجاناً واستغراباً كبيراً هو تمادي المجتمع وعدم مبالاته تجاه هذه الظاهرة الخطيرة التي تنذر بهدم كيان الأسرة. "الرياض" ومن خلال هذا التحقيق استهدفت مجموعة من الأسر التي عانت ومازالت من ظاهرة التفكك الأسري والإهمال الذي بدأ ينتشر بين فئات المجتمع. (أقاربي تخلوا عني بسبب الورث) في البداية تحدثت أم محمد وهي امرأة تعيش وزوجها وأولادها في شقة صغيرة، تكفل بدفع اجارها الشهري فاعلة خير، كما أنهم يعيشون على مساعدة الغير التي اصبحت تؤرق نفسية تلك العائلة الصغيرة ومن هنا تبدأ أم محمد سرد معاناتها التي عاشها مع مرارة الحياة وتقول "لقد عانيت وزوجي أشد المعاناة، فأقاربنا أنا وزوجي تخلوا عنا بسبب خلافات عائلية طويلة لها أكثر من 18سنة، فأنا سعودية من أب سعودي ووالدة غير سعودية، وكلانا أنا وزوجي لا نعمل، وتتابع أم محمد "لقد أنكر أقارب والدي صلتي بهم بعد وفاة والدي، وأنني لست ابنتهم على الرغم من وجود الأوراق التي تثبت أنني قريبتهم، بل أنهم أصبحوا لا يطيقون رؤيتي خوفاً منهم أن احصل على ورثي الذي تركه لي والدي وطمعاً منهم في الاستحواذ على هذا الورث، فأقاربنا لا يأتون لزيارتنا البته، بل نسوا أن لهم قريباً أو قريبة يتشوقون لرؤيتهم. وتستطرد أم محمد "لقد سخر الله لنا بعض فاعلي الخير الذين وقفوا معنا وساعدونا ببعض ما أعطاهم الله، ولكن يبقى أمر لم الشمل في الأسرة هاجساً لابد منه، فمسألة جحود ونكران اهلك لك مسألة خطيرة وقاهرة في نفس الوقت وتدمع لها الأعين". من جانبها اكدت ام عبدالعزيز التي تعيش وسبع بنات في منزل واحد مستأجر، في ظل عدم وجود من يقوم على رعايتهم والعناية بهم والسبب بناء على ما قالته أم عبدالعزيز "طمع الدنيا أعمى عنا رعاية واهتمام من نحن في أمس الحاجة له، وتقول أم عبدالعزيز نحن عائلة كبيرة جداً ومعروفة فقدنا الأب والأم في آن واحد، فوالدي متزوج من أربع ووالدتي الأولى من بينهم، لقد تخلى عنا أخوتي الذكور بحجة أنهم مشغولين في أمورهم الخاصة التي طغت على حقنا كأخوات كان من حقنا عليهم زيارتنا والسؤال عنا، كوننا بنات لا نملك أي دخل ثابت ولا يوجد بيننا في المنزل رجل يقوم على مصالحنا". وتردد أم عبدالعزيز "أين حق القرابة أين حق القرابة أين حق القرابة، أين صلة الرحم أين؟ أخواننا تخلوا عنا ونحن نساء لا يحق لنا السكن لوحدنا فماذا يجب علينا فعله إذاً، فجميعنا لا يعمل وأخواتي وأقاربنا الذين يعيشون في منطقة تبعد عن الرياض 600كيلو متر لم نراهم منذ 25سنة، ولم يقوموا بزيارتنا منذ تلك الفترة حتى الآن". (اخوتي أهملوا زيارتي) كما يتذكر أبو سعد وهو رجل في الستين من عمره وغير متزوج، أيامه الأولى التي قدم فيها للرياض قبل عشرين سنة وعاش وسط أخته وأبناءها حلو الأيام ومرها حيث قال "لدي أسرة تتكون من أخ واحد وأختين، وبحكم أنني الكبير لا تحلو لي الأوقات إلا بمشاهدتهم، فهم قليلاً ما يأتون لزيارتي هنا في الرياض لأن كل منهم مستقر في بيت الزوجية، وأخذت منهم مشاغل الحياة الشيء الكثير الذي جعلهم ينسون أخاهم الأكبر!!، فكوني رجلاً غير متزوج إلا أن أطفال أخوتي في مقام أبنائي كما انني متشوق لرؤيتهم أمامي على طول". ولا يستبعد أبو سعد أن يكون هناك من هم على شاكلته حيث قال "التماسك والتكاتف الأسري مطلوب ونحن أمة مسلمة يجب علينا تكثيف تلك الزيارات والسؤال عن بعضنا. ومن جانبه بين (س. ف) أن عائلته الكبيرة للأسف لا تجتمع إلا في مناسبات معينة، كمناسبات الأفراح أومناسبات الأحزان، ويقول (س. ف)، "هناك أقارب وللأسف أنهم قريبين جداً لا أعرف أسماءهم، فمنهم داخل الرياض ومنهم خارجه وفي حال مقابلة أياً منهم بالصدفة تكون بيننا الصفة الرسمية في التعامل، مؤكداً بأن المسؤولية الأولى تقع على الآباء كونهم العصب الرئيسي في التربية ولم نتعود منهم التواصل، وان هذه المشكلة ليست محصورة على عائلة دون أخرى بل موجودة عند الكثير من العوائل". كما التقت "الرياض" بعدد من المسؤولين والمهتمين والأخصائيين للتعرف معهم أكثر عن "أسباب ظاهرة التفكك والإهمال الأسري" وعن نتائجها ومدى خطورتها. (التوسع في الإسكان) أكد الدكتور مفلح القحطاني نائب رئيس جمعية حقوق الإنسان، أن الجمعية حين يرد لها مثل هذه القضايا فإنها تعمل مع الجهات ذات العلاقة حتى يتم الوصول إلى حل أمثل لهذه الحالات، وهناك تجاوب مشكور من وزارة الشؤون الاجتماعية ومكاتب الضمان الاجتماعي لدراسة مثل هذه الحالات لتقديم العون والمساعدة، ومع ذلك فإن الحاجة تدعو لوجود مصدر دخل لمن لم تجد المأوى المناسب، فلابد من التوسع في إنشاء الإسكان الشعبي والخيري، بعد حصر هذه الأسر والعمل على تذليل العقبات من أجل الإسراع في استفادتها بشكل مناسب، كما ينبغي تطوير الأربطة الخيرية في بعض المناطق لاستيعاب مثل هذا الحالات وتفعيل الاستفادة من مبالغ الأوقاف المجمدة وغير المستغلة لتلبية احتياجات بعض الأسر الفقيرة والتي يتوافق الإنفاق عليها ومساعدتها مع بعض ما خصصت له مثل هذه الأوقاف، فالحاجة تدعو لإنشاء مستشفيات خيرية تستطيع من خلالها الأسر المحتاجة للعلاج والتي لا تستطيع الحصول عليه في المستشفيات الحكومية أو الخاصة. وأشار القحطاني بأن دور أفراد الأسرة بلا شك مطلوب والدين الإسلامي حث على الإنفاق على من يلزمه نفقته والأسرة هي نواة المجتمع، ولكن عندما يكون هناك تخل من البعض عن أقاربهم فيتطلب وجود جهة تعتني بهم وتقدم لهم المساعدة. وحول الأسباب المؤدية لتفشي ظاهرة الإهمال الأسري بين أفراد الأسرة الواحدة، أفاد الدكتور القحطاني بأن الأسباب في الحقيقة ضعف الوازع الديني وغياب التربية الصحيحة والبرامج التوعوية الهادفة، ولذلك نجد بعض أفراد الأسرة لا يبر بوالديه وأقاربه ولا يصله إلا في المناسبات أو في حالة المرض، ولاشك ان كل ذلك يتعارض مع القواعد الشرعية ومع مكارم الأخلاق، واهتمام بعض الأفراد بأمورهم الخاصة وغلبة الطابع المادي للحياة، وهذا ساهم في تعميق هذا التباعد والتنافر بين بعض أفراد الأسر. وأضاف القحطاني بأن مثل حالات الإهمال الأسري تدخل ضمن العنف الأسري، وتتلقى الجمعية عدداً منها وهي تمثل نسبة من قضايا العنف الأسري التي تمثل حوالي 80في المائة من القضايا التي وردت الجمعية، ومثل هذه القضايا يلاحظ وبرغم من أننا في بلد مسلم يفترض أن يكون أفراده متصفين بالتراحم والتواصل والتحلي بالأخلاق الحسنة والقيام بالواجبات الشرعية تجاه الآخر، إلا أن نسبة حدوثها يمثل قلقاً يجب التنبه إليه ومعالجته. من جانبه اكد الدكتور علي الحناكي مدير عام الشؤون الاجتماعية بمنطقة مكةالمكرمة، ان هناك وللأسف قسوة ملموسة في علاقات الأقارب بعضهم ببعض ايضا وجود فجوة في علاقات الجيران وبين بعض الناس، فعادات وقيم وأعراف وتقاليد المجتمع السعودي تحث على التكاتف الاجتماعي وعلى التعاون على البر والتقوى. وأوضح الدكتور الحناكي بأن من ظواهر الإهمال الأسري غياب التواصل الأسري من قبل الأبناء والبنات لأسرهم فقد قال عليه الصلاة والسلام "الرحم معلقة في العرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله"، فالملاحظ ان هناك صدودا من قبل الأبناء والبنات المتزوجين عن زيارة أقاربهم وللأسف ان هذا ملموس، وقال الحناكي "يبدو ان النظرة للحياة السريعة والتحديث الحاصل في المجتمع بشتى المجالات تجعل كثيرا من الناس ينشغلون بأمور الحياة وأشغالهم وارتباطاتهم الشخصية على حساب التكاتف الاجتماعي والعلاقات الأسرية. وأفاد الحناكي بأن هناك اجتماعات لبعض الأسر الحريصة على الترابط الأسري، ولكنها ليست بالكثيرة، ربما تكون كل شهرين او ثلاثة، وأن هذه الاجتماعات يتحملها شخص واحد او اثنان في حين الجميع يأتي على استحياء وببرود في ظل غياب العلاقات الساخنة الحميمة التي كانت موجودة من قبل. وأضاف الحناكي بأن فجوة الإهمال الأسري وعدم الترابط ليس موجودا فقط بين الكبار في الأسرة بل موجود ايضا بين جيل الشباب والصغار في الأسرة، وهذا ما يلاحظ في المناسبات العامة كالزواجات وغيرها، بحيث ان الاجتماعات محصورة بمعنى ان اختلاط الشباب والصغار بالكبار في تلك المناسبات مفقود، وهذا مما يساعد على الانفصال، بينما الأعراف والقيم والتقاليد والحكم لا يمكن ان تحصل للأبناء الا من خلال جلوسهم مع كبار السن والحكماء من كبار العائلة، الا ان هذا الأمر يكون فيه شيء من التنافر. وعن الأسر التي تعاني وجود فجوة كبيرة من عدم اهتمام ارباب الأسر بهم وما هي اسبابها قال الحناكي "من الأسباب هو انشغال الآباء والأخوة الكبار في اعمالهم وسفرياتهم ووظائف وزوجاتهم، وضعف الوازع الديني، ووجود التنافر والتناحر والشقاق بين الزوجات الذي قد يكون سبباً من اسباب تباعد الأقارب عن بعض، وتدخل الأهل ومشكلات اللقاءات التي تتم بوجود النساء والتي للنساء دور فيها من حيث اثارة المشكلات في تلك اللقاءات، بذلك بلا شك يترك آثارا سيئة في النفوس بدلاً من ان تكون اللقاءات على الخير والتراحم والتكاتف. ونوه الحناكي بأن على الأسرة ان تراعي حسن تربية البنت وأن تنشئ على التربية الفاضلة بعيداً عن تربية الترف والدلال الذي ربما يؤدي لعدم وجود عاطفة لتلك البنت ومن ثم يؤدي الأمر لهروبها، وأنه وللأسف هناك انواع من الأسر التي يوجد فيها فجوة بين ذوي الفتاة من حيث عدم اللامبالاة وانشغال الأم عن متابعة الفتاة، مما تسبب في هروبها من المنزل والبحث عمن تبث له همومها ومشاكلها من الذئاب البشرية التي لا ترحم، وأننا اذ نراها فرصة ان ندعو الآباء والأمهات ان يولوا أبناءهم وبناتهم بالتحديد ما يستحقونه من العطف وإن كانوا كباراً، وأن يكونوا قريبين منهم، فالابن والبنت لهما خصائص في فترة المراهقة لذلك يجب ان نستوعبهم وأن نصبر على عنادهم ونحتويهم لأصدقاء لهم، حتى لا ينصرفوا فيما بعد للعقوق والجحود والنكران. وحول ما يعانينه النساء اللاتي يوجد لديهن اطفال وأبناء كبار يحتاجون للعناية ولم شملهم من الإهمال والجحود والتعليق من قبل ازواجهن قال الحناكي "هؤلاء يدخلن في حكم النساء المعلقات اذ ان المرأة تعاني عقوق وصدود زوجها وابتعاده عنها، وهناك كثير من النساء المعلقات والمعذبات والمتعبات اللاتي يدرس الضمان الاجتماعي الآن أوضاعهن كنساء معلقات ومعذبات، بحيث يتم صرف اعانة عاجلة مقطوعة دفعة واحدة تسمى اعانة اسعافية للمرأة وأفراد اسرتها تقدر حسب عدد افراد الأسرة، وبعدها يتم صرف اعانة شهرية بحدود 750ريالا لأفراد الأسرة، وأن ذلك يعتبر جهدا جيدا من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية ممثلة في الضمان الاجتماعي، وأريد ان أبين بأنه الضمان الاجتماعي خلال ال 14شهرا صرف ما لا يقل على 13مليارا، معظمها صرفت على المعلقات والمعذبات من النساء اللاتي لا يستطعن الصرف على أبنائهن مما كان له اثر رجعي على نفسيتهن. وأبان الحناكي بأن الضمان الاجتماعي حريص على رفع معنويات المرأة المهملة والتي تعرضت للصد من قبل زوجها، ويحاول الضمان ادخالها وأبنائها في برنامج الأسر المنتجة ومساعدتهم في كل ما يحتاجون بحيث لا تحتاج لذلك الزوج المتخاذل اما بإرادة او ان يكون مريضاً نفسياً او مدمنا للمخدرات او ما شابه ذلك، مشيراً الى أن هناك أسرا مهملة تركت دون عائل وهي متعففة عن السؤال هم مسؤولية الجميع وبالأخص وزارة الشؤون الاجتماعية التي تقدم لهم كل الإعانات والاحتياجات من خلال السعي لهم، بحيث تكون تلك المساعدة بسرية وستر تام. نحن نريد ان نوصل رسائل للآباء والأمهات مضمونها ان يتقوا الله في اولادهم، وهذا يخفف كثيراً من عملية التعنيف والعقوق الحاصل بين الناس والعنف والإهمال الحاصل بين الأسر، وان يرعوا الأسلوب الأمثل في التعامل مع الأبناء. من جانبه اكد الدكتور نزيه أحمد أخصائي اجتماعي متخصص في شؤون الأسرة، ان الأسرة تعتبر نواة المجتمع بصلاحها يصلح المجتمع وبفسادها يفسد المجتمع ككل، ولابد ان تكون هناك مراعاة من قبل اطراف الأسرة، وأن التفكك الأسري هو بداية فساد الأسرة ومنه بداية فساد المجتمع. وأشار نزيه الى اننا نجد في الأسرة الواحدة ان الابن لا يسأل عن والديه الا قليل، هل الأخ يسأل عن اخته او اخوه بل هل يزوره وهم في نفس المنطقة؟ (الإجابة هي قليل جداً او نادر)، فاحيانا التفكك يكون داخل الأسرة الصغيرة بين الزوج وزوجته وأبنائه فكل في فلك يسبحون فالأب لا يعرف ماذا فعل أبناؤه في الدراسة او أي شيء آخر، فالتفكك مشكلة كبيرة تنتشر في المجتمع المحيط بنا. وأضاف نزيه ان مشكلة الإهمال والتفكك الأسري موجودة بكثرة في المدن، ولكن ما يؤلم القلب ان تتواجد هذه المشكلة في القرى التي تعتبر في الماضي كيان واحد متماسك، وقد انتشرت ظاهرة الإهمال والتفكك الأسري بالمجتمعات العربية والإسلامية ووصلت الى درجة خطيرة مما ترتب عليها نتائج وانعكاسات سلبية وخيمة على الأسر (الأزواج والأولاد) والمجتمع من جميع النواحي الاجتماعية والأمنية والنفسية.. وهذا ما يتطلب من جميع مكونات المجتمع التدخل وتضافر الجهود والتعاون من اجل انقاذ الأسر من كل اشكال التصدع والتفكك والضياع وحفظ المجتمع من عدم الاستقرار والأمن والعنف والعدوان. وأرجع الدكتور نزيه اسباب الإهمال والتفكك الأسري لعدة أمور اهمها: مسايرة التقدم والمدنية والبعد عن العادات القديمة والتقاليد، وغياب الوازع الديني، وتحدي التقاليد والأعراف والآداب الاجتماعية، وافتقاد العلاقات الأسرية للثقافة والوعي وافتقادها ايضا للحوار العائلي فذلك كله يجعل الأسرة مشتتة. كما افاد نزيه بأنه يجب قيام المساجد ودور القرآن ووسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية والمقروءة والمدارس بالإضافة الى الجمعيات والنوادي الثقافية والتربوية والدعوية بالتوعية بأهمية الأسرة في المجتمع ودورها العظيم وتماسكها والحفاظ عليها من التفكك والضياع ثم القيام بتقوية الوازع الديني والإيماني والتربية والتثقيف. هذا بالإضافة الى التحذير من مخاطر الغزو الثقافي والإعلامي للحضارة الغربية التي تتميز اسرها بالتفكك والتشتت وغياب الروابط الدينية والأخلاقية والتربوية فيما بين افرادها.