- استطيع أن أقف على قدمي.. - ما زلت بخير.. والليل يمضي إلى منتصفه، ويصل في احضانه القمر بنصفيه، نصف يسطع بالنور والآخر يختفي خلف عباءة الليل السوداء.. عقارب الساعة تتحرك ببطء، فتدس دقائقها الطويلة سموم الانتظار في داخلي.. احمل بعدها قلمي فتتبعثر الكلمات من حولي، اجمعها ثم تعود طلاسم لا معنى لها.. حملت جسدي بعد صبر طويل وألقيت به في سيارتي الصغيرة وانطلقت إلى العمل.. كان قرص الشمس الدائري قد جاوز الأفق.. ثمة امرأة أمام باب المدرسة المجاورة تمسك بطفلتها الصغيرة وتنتظر متى يسمح لها بالدخول.. عامل نظافة على الجانب الآخر من الشارع يجمع ما خلفه الليل وراءه من علب السردين وأعقاب السجائر.. جلست في مكتبي.. لحظات.. فأقبل الدكتور جمال بابتسامته الواسعة، ألقى عليَّ تحية الصباح ثم جلس بجواري على مكتبه، أخذ يتحدث عن تاريخ مصر وكيف كان للثورة فضلٌ في القضاء على الإقطاع وتحرير الفقراء من الاستعباد.. نظر إلى الحزن الذي يقطر من عيني.. جاء فوضع يديه على مكتبي اقترب مني برأسه الصغير ثم قال ممازحاً: - إذا لم تتزوج يا مهندس فهد سوف تضع صورتك على الإنترنت وأنت تتحمل مسؤولية ما قد يحدث لك.. هززت برأسي المتعب ثم قلت له: - لقد حاولت أن أتزوج ولكنني لم انجح.. صاح في وجهي ثم قال: - ماذا تعني!! - اعني أنني تقدمت لخطبة إحداهن ولكنها رفضت.. قال بدهشة: - رفضت!! ولماذا ترفض؟ ثم سكت قليلاً واستطرد يقول: - لكنه النصيب يا ولدي.. أوميت برأسي ثم قلت بغضب شديد: - ليس نصيباً.. عندما تمضمض اسمي في فمها ثم تقول «لا».. - ليس نصيباً.. عندما ترفض من دون سبب أعرفه ويبرر لها ذلك.. - وعندما أكون حديث الأقزام لا يكون ذلك نصيب يا دكتور.. - إنه الغرور عندما تنظر المرأة إليك من برج عاجي، تنتظر فارساً على جواد أبيض، تعيش قصص «ألف ليلة وليلة» ثم تبقي خنجراً مسموماً في صدرك وتمضي في الحياة دون اكتراث لما قد يحدث لك.. - وعندما يمتد تنين العشق في عروقك.. وينام برأسه المسنن في قلبك.. وتصبح شرايينك كأعواد الثقاب المشتعلة.. ومشاعرك تذوب كالشمع المنصهر من أعناق الشموع تدرك أن تلك قسمة ظالمة.. أخذ نظارته المدببة من أمام عينيه الغائرتين، مسح وجهه بإحدى يديه ثم قال: - رب ضارة نافعة.. - ربما تكون تلك الحادثة جزءاً مهماً من تكوين شخصيتك، أو تكون صرخة توقظ في داخلك براكين من النجاح وانهاراً من الصبر وكسفاً مضيئة من التحديات.. قاطعته قائلاً: - لقد نخر الجنون في رأسي.. - ونال اليأس من بأسي.. - يلف الحزن في قلب.. - وذاب المر في كأسي الله.. الله.. يقولها قبل أن يجاملني ويقول: - قد أصبحت شاعراً.. ساد بيننا بعد ذلك صمت طويل قبل أن اكسره بكلمات مرتبكة: - كان يوماً مجهولاً عندما تقدمت لخطبتها. غريبٌ كغربتي في نظرات الصغار ذلك اليوم، عندما رأيت يديّ أمي ترتفع للسماء انتابني شعورٌ من الخوف.. نظرت في عينيها فرأيت دموعاً تنتظرني.. - وما زلت أتذوق مرارة القهوة التي شربتها في منزلها.. كأنها علقت في لساني واستوطنت في طبقات حلقي. فنجانها الصغير الذي يغطي قعره لون المجهول.. جعلني أطرق فيه ملياً.. قبل أن يتنامى إلى مسمعي صوت أحدهم.. يقول بحدة: - تعمل في الرياض إذاً؟ حاولت أن اجمع شتاتي ثم أجبت بكلمات مبعثرة لا صلة لها بالسؤال.. ابتسم «ياسر» الذي كان يحمل القهوة.. ثم هربت من الحرج قائلاً: - أعجبتني القهوة. جاء الفتى مرة أخرى ثم افرغ لي فنجان آخر.. تمتمت قائلاً: - أي سم تسقيني.. انتبه الفتى لما أقول.. ثم قلت بسرعة: - أعجبتني القهوة يا ياسر!! نصبتُ بعدها جسدي النحيل أمام باب منزلها وكأنني تلك النخلة الواقفة شموخاً في فنائه.. بقيت للحظات.. ثم غادرته إلى الأبد وفي طريق العودة من القدر الرمادي المحتوم قلت بأسى العشاق: سأبقى احبك حتى تكون دموعي دماءً وقلبي حجر تعالي فإن العدو استراح وقلبي تحشرج ثم انفجر رميت بقلمي المتعب ثم أغلقت محبرة قلبي في انتظار جواب آخر.. وأطبق الصمت على المكان من جديد..