نشرت جريدة "الرياض" في عددها الصادر يوم الجمعة 12ذي الحجة 1428ه ( 21ديسمبر 2007) في ملحقها الاقتصادي نتائج استفتاء إلكتروني للمواطنين حول الحلول الجذرية لمواجهة غلاء الأسعار في السعودية، وكانت النتائج لافتة للنظر من ناحيتين. الأولى من حيث العدد الكبير من المواطنين الذين شاركوا في الاستفتاء (عشرون ألف مشارك ونيف)، ومع أنه لم تتضح خصائص المشاركين من حيث المهنة والعمر ومكان الإقامة، لكي يمكن وزن الآراء بمقدار تمثيلها للشرائح الاجتماعية المختلفة - إلا أن حجم المشاركة الكبير يعطي الاستفتاء وزنا ذا قيمة استدلالية كبيرة. هذا الاستفتاء جدير بالإشادة، وجريدة "الرياض" تستحق الشكر على القيام بهذا المجهود الذي أفسح مجالاً للرأي العام ليقول كلمته، عوضاً عن الاعتماد المطلق على آراء الخبراء المختصين التي قد تختلف وفقاً لقراءاتهم وإطلاعهم دون سند من تجارب أو دراسات واقعية. بل أن استفتاء الرأي العام هو البديل الأمثل عندما تعمد جهة رسمية إلى التهوين أو التقليل من شأن ظاهرة تقلق الرأي العام مثل ظاهرة غلاء الأسعار أو التضخم. وعلى سبيل المثال أشارت بيانات صادرة من وزارة التجارة قبل أكثر من شهرين عن أسعار بعض المواد الغذائية إلى أن أرتفاع الأسعار كان محدوداً وأن أثره كان ملموساً على الأرز والحليب بصفة خاصة، لأن هذين الصنفين من ضروريات المعيشة، لكن ليس الخبر كالعيان. فلو أجري استفتاء لرباب البيوت لكانت النتائج مختلفة عن بيانات وزارة التجارة، أما الآن فإن أمر خادم الحرمين الشريفين بصرف إعانة الأرز والحليب قد حسم هذه المسألة وأغنى عن الحاجة لمثل هذا الاستفتاء. أما الناحية الثانية التي تلفت النظر في الاستفتاء فهي الواقعية والنظرة المتزنة التي طبعت نتائج الاستفتاء، فها هي ذي أكثر الآراء (32%) ساندت رفع رواتب الموظفين، ولم يساند إلا أقلية ضئيلة (2%) تقليل الانفاق الحكومي، ذلك أنه توجد علاقة منطقية طردية بين مستوى الانفاق الحكومي ومعدل رواتب الموظفين، فإن هذا الانفاق تموله مصادر تملكها الحكومة نفسها وهي إيرادات النفط التي زادت زيادة عظيمة، ولذلك لا يبدو منطقيا أن تطالب الأكثرية برفع رواتب الموظفين، وأن تطالب في الوقت نفسه بتقليل الانفاق الحكومي. لكن لا أحد ينكر أن زيادة الرواتب قد ترفع الأسعار، وأن السخاء في الانفاق الحكومي قد يجلب التضخم، فقد زيدت الرواتب فعلاً قبل أكثر من سنتين بمقدار 15% ولكن ذوي الدخل المحدود لم يستفيدوا كثيراً من ذلك، وكذلك المشاريع الحكومية زادت زيادة لا مثيل لها، ولكن أفسدت التهليل لها زيادة في أسعار المواد وأجور اليد العاملة الوافدة ونقص في الشركات المنفذة، فما حكم المنطق في هذه الدائرة المفرغة التي تجلب الدوار والصداع للرؤوس؟ بل ما هو العلاج الناجح؟. ربما يكون العلاج الذي خطر - حقيقة - في بال المشاركين في الاستفتاء هو رفع معدل الدخل الشهري - وليس الراتب الأساس - للموظف إلى حد يتناسب مع درجة الغلاء، ويكون ذلك بمنح بدل (علاوة) معيشة (تحت أي مسمى يصطلح عليه) تتدرج تنازلياً مع تصاعد الراتب. وعلاوة للمتزوج بنسبة ثابتة من الراتب، ومثل هذه البدلات موجود ما يماثلها في دول الخليج وبعض الدول المتقدمة، ويمتاز البدل عن زيادة الراتب بأنه يمكن خفضه أو إلغاؤه - لو حصل ما لم يكن في الحسبان من نقص في الإيرادات، على نحو ما عاصرناه قبل أكثر من عشرين عاماً، حين خفضت أو ألغيت بدلات جارية على إثر انخفاض إيرادات النفط، أما الرواتب فيتعذر خفضها بعد أن ترفع. وقد أبدى بعض المشاركين في الاستفتاء تخوفهم من أن ترفع الرواتب قد يحل مشكلة موظفي الدولة وأسرهم الذين لا يشكلون أكثر من ربع السكان، إلا أن هذا التخوف يزول إذا تيقنوا أن الدولة يمكنها إلزام المؤسسات شبه الحكومية والشركات التي تملكها الدولة أو تساهم فيها والبنوك - بتركيبة دخل مشابهة، ويجدر بنا أن لا نتجاهل دور الدولة في تحقيق رفع لمستوى دخل العاملين في القطاع الخاص، فإنه إذا كان رجال الأعمال يستطيعون حماية مصالحهم من خلال الغرف التجارية ومجموعات الضغط فإن العاملين لديهم ليس لهم من يرعى مصالحهم سوى الدولة بأنظمتها وأجهزتها الرسمية. أما ما يخص الانفاق الحكومي فإن الدولة أدرى بما يجب عمله حيث أن توجيهه نحو الأولويات الصحيحة هو الأداة الفعالة وليس تقليصه.. على سبيل المثال من خلال دعم ميزانيات التشغيل والتدريب وإدخال التقنيات الحديثة، وتوفير الحوافز لرفع الانتاجية ولتحسين جودة العمل ولاستقطاب ذوي الكفاءات والمهارات العالية، وتوفير الاعتمادات الكافية لإنجاز المشروعات وفقاً للمواصفات الجيدة والقدرة الجيدة على التنفيذ، وليس وضع المواصفات واختيار العطاءات وفقاً للاعتمادات، كذلك من خلال رصد ميزانيات كافية لتطوير البنية التحتية للمنشآت والطرق، وتحسين ظروف البيئة الطبيعية في مناطق واسعة بالمملكة مثل جازان والساحل التهامي، ومضاعفة قروض الإسكان - وخاصة من صندوق التنمية العقارية التي لا يزال سقفها كما كان قبل ثلاثين عاماً متعلقاً بثلاثمائة ألف ريال، ومضاعفة دعم موارد صندوق التنمية البشرية للتوسع في برامج إعادة التأهيل رأسياً وأفقياً. وعلى أي حال لا يعني ما قلناه الإقلال من أهمية الحلول الأخرى التي اقترحها المشاركون في الاستفتاء، فإن تشجيع البيئة الاستثمارية وكسر الاحتكار وتوزيع السوق من شأنها أن تؤدي إلى زيادة العرض والمنافسة وهذه - كما هو معروف - من آليات السوق الفعالة. ومن الآليات الفعالة - بلا جدال - مراقبة الأسعار التي اقترحها 23% من المشاركين، وفي هذا السياق يأتي قرار سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز بوضع مؤشر لأسعار المواد الغذائية - في وقته، لأنه بدون مؤشر لا تكون للمراقبة أي جدوى، ومن ثم لا تعرف الفرصة المواتية للتدخل السريع، لقد تميز هذا الاستفتاء الكبير بوضوح نتائجه، غير أنه لا بد من الإشارة إلى شيء كان غائباً فيه، ذلك هو الاستطلاع عن مدى تأثير الوعي الاستهلاكي - أو وعي الاتفاق. ولست أعني بذلك تغيير الأنماط الغذائية بالاستغناء عن الأرز مثلاً - فهذا مضحك. ولكن هل فكرنا في التخلي عن بعض مظاهر الاستهلاك الكمالية مثل البذخ في الولائم والأعراس؟ وهل فكرنا مثلاً في الإقلال من الثرثرة عبر (الجوال) وتحويل كلفتها لقضاء حاجات أكثر ضرورة؟ الأمثلة كثيرة، ومحصلتها أننا بوعينا الاستهلاكي قد نؤثر في اتجاه الأسعار وقد نساهم ولو بجزء يسير في مواجهة الغلاء.